رحمة الله أوسع من الألم
في ليلة رمضانية هادئة، كان العم صالح يجلس على كرسيه المعتاد في وحدة غسيل الكلى، يراقب بعينين حزينتين قطرات دمه التي تسري عبر الأنابيب إلى الجهاز، فتُصفّى ثم تعود إليه من جديد. أمامه شاشة تعرض بيانات دورات التصفية، وكأنها تحصي له لحظاته العالقة بين المرض والصبر. شعر بوخزة في قلبه، ليس من الألم الجسدي الذي اعتاده، بل من ذلك الشعور الثقيل بالحرمان.
رمضان، أحب الشهور إلى قلبه، قد مضى نصفه وهو لم يصم يومًا واحدًا. كان منذ طفولته يترقب هذا الشهر بشغف، يتسابق إلى الصيام والقيام، يأنس بمائدة الإفطار مع أهله، ويجد راحته في الصلاة وقراءة القرآن والدعاء. أما الآن، فقد أجبره المرض على الإفطار، فصار كلما سمع أذان المغرب تساءل بأسى: ”هل أفطر كما يفطر الصائمون؟ أم أنني خارج هذا الفضل؟“
بينما كان غارقًا في أفكاره، دخل الدكتور خالد إلى الغرفة. لاحظ حزنه الجاثم، ودموعه التي حاول إخفاءها، فاقترب منه بلطف وجلس بجانبه:
— ”أراك مهمومًا يا عم صالح، ما الذي يثقل قلبك؟“
تنهد صالح بعمق، وصوته يخرج متعبًا كروحه:
— ”كيف لا أحزن يا دكتور؟ مرت خمسة عشر عامًا وأنا أخضع لغسيل الكلى، وفي كل عام كنت أصوم يومًا وأفطر يومًا، أما هذا العام... لم أستطع الصيام مطلقًا. كنت أتمنى أن أجري عملية زراعة كلى، لكن كل المحاولات باءت بالفشل، والآن أشعر بالعجز، وكأن رمضان يمضي بعيدًا عني، دون أن أكون جزءًا منه.“
ابتسم الدكتور خالد بحنان وربّت على كتفه قائلاً:
— ”ولكن يا عم صالح، هل نسيت أن الله رحيم بعباده؟ ألم يقل في كتابه الكريم: «وما جعل عليكم في الدين من حرج»؟ لقد رخص الله للمريض أن يفطر، وليس ذلك تخفيفًا فحسب، بل هو طاعة، لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.“
نظر إليه صالح متأملًا، فواصل الطبيب حديثه:
— ”وهل رمضان يقتصر على الصيام وحده؟ هناك عبادات كثيرة تُقرّبك من الله، مثل الصلاة، وقراءة القرآن، والدعاء. ألم تسمع قول النبي ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات»؟ نيتك الصادقة في الصيام قد كُتبت لك، وأجرك محفوظ عند الله.“
ساد الصمت للحظات، قبل أن يحرك صالح رأسه بإيماءة خفيفة، ثم قال بصوت أكثر هدوءًا:
— ”معك حق، كنت أركز على ما فقدته، ولم أفكر فيما يمكنني فعله.“
ابتسم الطبيب مطمئنًا وقال:
— ”بالضبط، احمد الله على نعمه، فما زال لسانك قادرًا على الذكر، وقلبك نابضًا بالإيمان، وهناك من لم يُكتب له أن يعيش رمضان هذا العام.“
مسح صالح دموعه، وشعر براحة تسري في قلبه كنسيم الفجر بعد ليلة طويلة. رفع يديه إلى السماء وتمتم بخشوع:
— ”اللهم لك الحمد على كل حال، وسأجعل ما تبقى من رمضان عامرًا بالطاعات.“
غادر الطبيب الغرفة، تاركًا خلفه روحًا قد هدأ اضطرابها، ونفسًا أيقنت أن رحمة الله لا يحدها مرض، ولا ينقصها ضعف، وأن العبد ما دام قلبه حيًا بذكر الله، فهو في خير لا ينقطع.