العدالة الاجتماعية: مدخل لإعادة ة التوازن الاجتماعي
تعاني المجتمعات العربية لا سيما في أعقاب ما عُرف «بالربيع العربي» والذي توقف عند بعض دولنا العربية حالة من التقهقر والتفكك وزيادة حجم الصراعات بمختلف أشكالها العرقية والدينية والطائفية والسياسية، وغيرها من التصنيفات. ويعد الظلم السياسي أحد أكثر العوامل التي تساهم في فقدان التوازن الاجتماعي ويليها الظلم الاقتصادي والاجتماعي، كما هو حاصل مع المرأة التي تعاني من الظلم الممزوج ببعض المفاهيم الدينية التي تكرس لمزيد من الأزمات الاجتماعية إنطلاقا من تفوق نسبة عدد النساء على الرجال إضافة إلى محورية دور المرأة في العملية التربوية والتنموية الاجتماعية.
قبل الغوص في أعماق مسببات فقدان التوازن الاجتماعي، أضع بين يديكم تعريفا كما ورد في لسان العرب لمفهوم العدالة الاجتماعية «Social Justice» العَدْل لغة: ما قام في النفوس أَنه مُسْتقيم، وهو ضِدُّ الجَوْر… وفي أَسماء الله سبحانه: العَدْل، هو الذي لا يَمِيلُ به الهوى فيَجورَ في الحكم…والعَدْلُ الحُكْم بالحق…والعَدْلُ من الناس: المَرْضِيُّ قولُه وحُكْمُه.
يذهب بعض الصحفيين والإعلاميين العرب إلى الادعاء أنه يمتلك ناصية الحقيقة بينما هو في الواقع يسقط الأجندة التي يؤمن بها على الواقع الاجتماعي كحصر الأزمات الاجتماعية في الجانب الاقتصادي ويتجاهل أهمية وأولوية الجانب الانساني المرتبط بالسياسة العادلة فيغيب عنه أهمية وجود التوازن الاجتماعي ويتسبب في غياب العدالة الاجتماعية وإحلال الظلم الذي يطال أكثر الشرائح تأثرا، وهي فئة الشباب من كلا الجنسين.
نشرت وكالة أنباء البحرين مقالاً بعنوان «مسارات الاصلاح» إشارة لتجربتي الصين وكوريا الجنوبية في مجال الإصلاح الاقتصادي في قبال تأخر الاصلاح السياسي ”تشير بعض التجارب، وعلى وجه الخصوص في الصين وكوريا الجنوبية كمثال واضح، إلى إمكانية ‘عدم التلازم’ بين الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي، خصوصاً في مراحل عمليات التنمية الاقتصادية الأولى. فمثل هذه الدول أمكنها تحقيق نمو اقتصادي كبير، ودون أن يواكبه تطور سياسي مماثل في اتجاه الإصلاحات السياسية.“ متجاوزاً الحاجة إلى الإقرار معالجة الأزمات الأقتصادية من الزاوية السياسية القائمة على أساس أن الشعب هو مصدر السلطات والذي يؤسس إلى مناخ اجتماعي متوازن.
البعض الآخر من الصحفيين ينطلق من تجارب تاريخية ويسقطها هو الآخر على الواقع حتى وإن كانت تلك التجارب ناجحة في زمانها فقد لا تكون ممكنة التطبيق في هذا الزمان أو في مجتمع ما، في حين أن من أهم الأمور التي ينبغي الاعتناء بها، كما أعتقد، والتي غابت عن الكثير هو استقراء الواقع الاجتماعي بمنهجية ورؤية علمية رصينة والخروج برؤية واضحة المعالم قادرة على صناعة المواقف التي تعيد التوازن الاجتماعي وتؤسس إلى مجتمع قوي متماسك بعيد عن التفكك والصراعات، التي في غالب الأحيان تكون على حساب الإنسان المقهور.
ونقلت صحيفة الرأي الكويتية بتاريخ 1 فبراير 2008 عن بناء سجون جديدة بالسعودية متخصصة في إصلاح المتشددين بحسب تعبير الصحيفة توزعت بين الرياض وأبها وجدة والدمام. وفي مقابل ذلك تفتقر جزيرة تاروت بشرق السعودية إلى مستشفى متكامل يلبي حاجة المواطن ويوفر عليه عناء السفر بالسيارة لمسافات بعيدة جدا للذهاب إلى مستشفى القطيف المركزي، مما يعطي صورة عن وجود خلل في العملية الإصلاحية.
وفي ذات السياق أشارت صحيفة العرب الصادرة بلندن عن تقرير بعنوان «ثورة سعودية لإصلاح سوق العمل واستئصال الترهل الاقتصادي» تؤكد على أن السعودية أدركت مؤخراً في حملتها على العمالة المخالفة لقوانين الإقامة والعمل أن ذلك يمثل ثورة إصلاحية إقتصادية ”وأدركت السعودية بعد أحداث الربيع العربي أن عليها ترتيب بيتها الداخلي بمعالجة الخلل في الاقتصاد ومعالجة الترهل عبر تنظيم سوق العمل بطريقة صارمة لمعالجة مشكلة البطالة، وساعدتها في ذلك برامج الانفاق الهائلة التي وفرتها الفوائض المالية الكبيرة نتيجة ارتفاع أسعار النفط العالمية.“ في حين تشير الأحصاءات الغير رسمية عن وجود بطالة أكثر من 30%. وأوضحت صحيفة الاقتصادي في تقرير في 6 أكتوبر من العام الماضي عن تزايد نسبة البطالة عند الحاصلين على الشهادات العليا. ”نسبة العاطلين السعوديين من الحاصلين على شهادة البكالوريوس أو الليسانس 46.2٪، يليهم الحاصلون على شهادة الثانوية أو ما يعادلها بنسبة 34.9٪، وبالنسبة للذكور منهم فإن أعلى نسبة للمتعطلين هم الحاصلون على الشهادة الثانوية أو ما يعادلها وذلك بنسبة 54.8٪، يليهم الحاصلون على شهادة الدبلوم دون الجامعي وذلك بنسبة 15.1٪.“
وبعيداً عن الحالة الجدلية بين الأولوية في الإصلاح، أكانت السياسة أم الاقتصادية فما هو شبه مؤكد أن معالجة الأزمات التي ترهق المجتمع وتسبب خللاً في عملية التوازن هو غياب منظومة العدالة التي تجعل من الإنسان محورها وليس أي شيء آخر.
تعتبر عملية التوازن الاجتماعي «Social equilibrium» في المجتمعات الإنسانية من أعقد الأمور وذلك لطبيعة النفس البشرية المعقدة، وتعرف نظرية حالة التوازن في النظام الاجتماعي على أنها التوازن الداخلي بين الظواهر الأجتماعية المتداخلة والعلاقات الخارجية التي يحافظ عليها النظام ضمن بيئته.
في القرآن «وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل» وفي آية آخرى «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ»، ومن خلال ما جاء في هذه الآيتين نخرج إلى أن الحكم لا يستقيم إلا من خلال إقامة العدل، وانعدامه يؤشر إلى وجود خلل يساهم في فقدان التوازن الاجتماعي.
وأيضا كما جاء في الأنجيل: ”أجروا حقاً وعدلاً وأنقذوا المغصوب من يد الظالم والغريب واليتيم والأرملة، لا تضطهدوا ولا تظلموا ولا تسفكوا دماً زكيّا في هذا الموضع... وإن لم تسمعوا لهذه الكلمات فقد أقسمت بنفسي إن هذا البيت يكون خراباً“ «إرميا 3: 22، 5» وفي نص آخر ”لا تقهر الفقير ولا تسحق المسكين فى القضاء“. هنا أيضا تأكيد على أهمية وجود العدل والدفاع عن المظلومين وعدم ممارسة الاضطهاد والقتل بدم بارد. ما نشاهده في العالم العربي إجمالاً لا سيما خلال «الربيع العربي» كشف عن هشاشة المجتمعات العربية والإسلامية على حدٍ سواء بسبب فاعلية العناصر التي تؤدي إلى غياب التوازن الاجتماعي والأكثر شناعة هو خلق قوانين وأنظمة من أجل السيطرة على المجتمعات من خلال سلطة القهر والحرمان التي أوجدت إنساناً عربياً تسيطر عليه حالة الخوف وعدم الثقة في المجتمع الذي ينتمي له.
صناعة التخلف الاجتماعي
يتناول د. مصطفى حجازي في كتابه القيّم «التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور» أهمية دراسة التخلف الاجتماعي من خلال عدم الاكتفاء بظواهر الأشياء، ومن أبرز المشاكل هي عقدة النقص التي جعلت من الخوف قوة تحكم الانسان المقهور.
ويؤكد د. حجازي أن الفئة المتسلطة «أي فئة» ”تعمل على تغذية عقدة النقص والعجز لدى الجماهير، حتى تظل على استكانتها وتبعيتها، وحتى لا تحاول اتخاذ زمام المبادرة في تقرير مصيرها بنفسها“. ويمكن ملاحظة حجم هذه المشكلة في الواقع العربي المعاصر أو حتى في التاريخ القديم كموقف فرعون حينما مارس جبروته ليغرس في شعبه الضعف وتفوقه عليهم مما جعلهم مسلوبين الإرادة.
ويعبر الإنسان المضطهد عن عدم شعوره بالأمن في المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه، مما يجعله يعاني من عدم الثقة بنفسه. ”القهر والعجز وانعدام الضمانات المستمرة، ماضيا وحاضراً، تصبغ المستقبل بالتشاؤم، فتنسد آفاقه، ويفقد الإنسان المتخلف الثقة بإمكانية الخلاص. انسداد آفاق المستقبل يضخم بشكل غير محتمل آلام الحاضر ومشكلاته اليأس من الخلاص، ومن خلال الجهد الذاتي هو ما يميز نظرة الإنسان المقهور إلى المستقبل“.
من دون فهم سكيلوجية الإنسان المقهور والحيثيات التي يتحرك من خلالها سواء كانت من خلال فهم ديني أو رؤية سياسية أو غيرها من عالم الأفكار سوف يزداد الإنسان المقهور تأزماً، مما يعني تشكل مجتمعات هشة غير قادرة على البناء أو العطاء.
يعتقد البعض أن ما يقوم به الشباب العربي نوع من الفوضى واللامسوؤلية وأن المشكلة تكمن في غياب منظومة إقتصادية فعالة من أجل مواجهة شبح البطالة والتي تشير أحد التقارير الصحفية أن نسبة البطالة في دول الخليج العربي تقدر بحوالي 40%، وأن العالم العربي بحاجة إلى خلق كم هائل من الوظائف تصل إلى ما يقارب 75 مليون وظيفة كما ورد في مجلة فوربس العربية المعنية بشؤن المال وإدارة الأعمال. وهذا الاعتقاد صحيح ولكن اقتصار المشكلة في هذا الجانب لا يصمد أمام الشعور بعقدة القهر كصورة الحرمان والتمييز على أساس الأنتماء الديني، والمذهبي والقبلي والمناطقي.
وجد الشباب العربي نفسه أمام مفترق طرق فهو أما أن ينخرط في التقوقع على ذاته والانغلاق أو يصنع له واقعا اجتماعيا منطلقا من القيم والمبادئ الإنسانية المشتركة كتحقيق العدالة والحرية والمشاركة في صناعة القرار السياسي والذي ينعكس على واقعه الاجتماعي.
وفي ذات السياق، يرى البعض بعد 3 سنوات من انطلاق الحراك السياسي في تونس وتوقفه عند بعض الدول العربية أنه أصبح خريفاً سياسياً وذلك بسبب تغليب المصالح السياسية والاقتصادية والتدخلات الدولية كما هو في ليبيا وسوريا والبحرين على حساب المبادئ والقيم والقوانين والأعراف الدولية.
ويؤكد هذه الرؤية د. علي الديري كما جاء في حوار في برنامج نقش الذي يبث على اليوتيوب ”بسبب التغير المعرفي الهائل جداً، أصبحنا اليوم نتحدث عن معاير نسبية وليس عن معاير موضوعية مستقرة أو معايير بالإمكان أن نزنها في موازين في منتهى نقطة الاتفاق“
ويكمل د. الديري حديثه عن الربيع العربي ”الحقيقة موقف ذاتي خال من الغرض، وإذا كنا نتحدث عن الربيع العربي، فنحن نتحدث عن مشكلة الازدواجية المنطلقة من أن مواقف المثقفين ومواقف الجماعات المختلفة ومواقف الدول ومواقف السياسات في الربيع العربي هي تحتكمُ إلى الغرض وليس تحتكمُ فقط إلى التقدير الذاتي، أي أن التقدير الذاتي يتحدد بالغرض أو ما يمكن أن نسميه اليوم بالمصلحة، أو أيضا ما نسميه اليوم بالتحالفات التي تحكم علاقات الدول“ وقد نتج عن هذه الازدواجية الكثير من التشوهات في العلاقات الاجتماعية ليس بين المختلفين فحسب بل حتى في داخل الأسرة الواحدة مما أحدث خللا في التوازن الاجتماعي.
ويشير د. توفيق السيف في مقاله المعنون «نقد مقولة التغرير» عن رؤية الشباب للحياة ”تطلع الشباب لحياة جديدة، هو في العمق بحث عن ذات مباينة مستقلة، بحث عن فرصة لتحقيق عالم خاص يبنيه بيديه، كي يجسد همومه الخاصة واهتماماته.“ وهذا يؤكد الحاجة الملّحة لفهم المجتمع لا سيما طبقة الشباب والتي تمثل الشريحة الأكبر في العالم العربي كما جاء في مركز الجزيرة للدراسات لعام 2013 أن نسبة الشباب في المجتمع العربي تفوق 68% مما يلزم أن تكون هناك مشاريع اقتصادية واجتماعية يتبعها استيعاب سياسي يسمح للشباب بالتعبير عن ذواتهم بعيدا عن لغة القهر والاضطهاد والتي تجعل من الإنسان العربي كائنا متخلفاً.
وكما يؤكد د. السيف على طبيعة المجتمعات العربية التي تحفل بالكثير من أسباب النقمة بحسب تعبيره ”المجتمعات العربية تحفل بالكثير من أسباب النقمة، فالأزمات الاقتصادية والانسداد على المستوى السياسي، تمثل كلها أسبابا لفشل الشباب في تحقيق طموحاتهم، وشعورهم اللاحق بالإحباط تجاه النظام الاجتماعي“.
في تقديري، في البدء، لا يمكن الحديث عن علاج فقدان التوازن الاجتماعي دون الاعتراف بوجود المرض مهما كان مؤلما وإلا فإن الهلاك أكثر ألماً، وبالرغم أن ما سوف أقدمه هو تنظير سبقني فيه علماء الاجتماع وأهل الاختصاص وكتب الكثير حوله، إلا أني أختصرها في ثلاثة محاور:
الإقرار بأهمية إيجاد تشريعات قانونية توافقية تتناسب مع طبيعة كل دولة وكل مجتمع وتشمل كافة مناحيَ الحياة الاجتماعية.
السعي إلى إصلاح التعليم العربي بما يتوافق مع متطلبات العصر والحاجات الإنسانية.
التأكيد على أهمية إشراك الشباب من كلا الجنسين في العملية التنموية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
فهل تستمع وتتقبل النخبة الوطنية المخلصة في العالم العربي إلى هذه الرسالة والتي تؤكد على حقيقة الأزمة التي يعيشها الإنسان العربي لا سيما الشباب وينحو المسؤولون في العالم العربي لتفادي خطورة الأمر.
أخيرا، إن ما كتب أعلاه لا يعدو كونه محاولة من أجل الوصول إلى التوازن الاجتماعي وينبغي أن يكون هناك سعي نحو التأكيد على الاستمرار والمحاولة للخروج من شرنقة القهر والاضطهاد التي يحتبس في داخلها الإنسان العربي منذ عشرات السنين مما يؤدي إلى خلل في التركيبة الاجتماعية كما هو الحال اليوم في المجتمعات العربية.