الصورة بوصفها أداةً إعلامية وأثرها في التطبيع
للصورة دورها في صناعة وتشكيل الرأي العام، وأحيانا تغيّره لصالح طرف ضد آخر، لا سيما مع تطوّر وسائل التواصل والاتصال والتي أصبحت ساحة حرب إعلامية لكل الأطراف ذات الصراع السياسي، الديني، وحتى الاجتماعي.
لم تعد الصورة لوحة فنية يتم تجميدها لتحمل الذكرى عبر الزمن، بل أضحت سلاحًا عابرًا للقارات يؤثر في العقل الجَمعي ويشكّل المجتمع دون أن يشعر أفراده بذلك.
أتذكّر حينما كنت طالبًا في المرحلة الثانوية، دار حديثٌ جانبي مع أحد المدرّسين يتناول تأثير الإعلام وأذكر ممّا قاله: ”أصبحنا نرى صورة المرأة التي تلبس ملابس قصيرة في الشاشة أمر عادي في وقت كنا نخجل من ذلك.“
هذا التوظيف الإعلامي لم يكن بريئًا أو عفويًا بحيث أصبحنا نعتقد أنّ ذلك أمرًا عاديًا وهو ما يسمى في الإعلام Normalization of Media التطبيع الإعلامي.
ويرى بعض الكتاب العرب كالباحث في علم الإعلام والاتصال د. يحيى اليحياوي أنّ التطبيع ينطلق من رؤيتين متناقضتين، فهو تعبير عن إسترجاع لحالة طبيعية ساهمت الظروف القهرية على إزاحتها عن موقعها كقضية عودة المهجرين الفلسطينين إلى فلسطين، أو إضافة صفة ”الطبيعية“ على العلاقات بكافة صورها وأشكالها بحيث تصبح مقبولة لدى الجميع كتواجد محللين سياسيين إسرائيليين في الإعلام العربي وكانت قناة الجزيرة القطرية أحد أشهر القنوات التي ساهمت في هذا التطبيع الإعلامي.
وأعتقد أن المخاوف الحقيقة التي ينبغي الأخذ بها بجدّية ومحاولة القيام بدراستها بصورة جديدة تتناسب مع التقدم العلمي والمعرفي، هي القدرة الفائقة على التأثير على شريحة الأطفال والمراهقين لا سيما حينما تحتوي أفلام الكرتون وألعاب الفيديو على الكثير من المشاهد المصوّرة التي تساهم في تطبيع العنف والجنس كحالة طبيعية، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال إرتفاع مستوى العنف والجريمة وأعتبارهما أمرًا أعتياديًا لدرجة تقبّل الأطفال للصور التي تصلهم عبر مختلف الأجهزة والتي تساهم شركات تسويق إعلامية كبيرة لكسب أرباحًا مالية على حساب مصلحة الانسان.
يبدو أنّ للمشهد في فلسطين لا سيما مع الانتفاضة الاخيرة قدرة توظيفية فائقة صنعت حراكًا ولو بصورة مؤقتة في العالم العربي من المحيط إلى الخليج، وذلك من خلال تصوير مشهد استهداف الطفل محمد الدرّة الذي قُتل في حضن أبيه لمحاولة الاختباء من الرصاص الذي أطلقه جنودٌ إسرائيليون.
الذاكرة الإعلامية العربية تحمل الكثير من الصور التي حركت الكثير من الشعوب العالم العربي، وكل مؤسسة إعلامية حاولت بصورة أو أخرى توظيف تلك الصور التي تصلها إلى داخل الإستديو.
في عام 2011، أحدث التطور التقني تقدمًا مذهلًا في صناعة الصورة وتوظيفها، في تونس كان لصورة الشاب محمد بو عزيزي وهو على سرير المستشفى يعاني من حروقٍ من الدرجة الأولى والرئيس السابق بن علي زين العابدين وهو ينظر له بنظرة الذهول، ليؤكد للمتلقّي حجم الصدمة النفسية التي لم يتوقعها زين العابدين والتي على إثرها اندلعت نيران الثورة في تونس وحتى أصبح العالم العربي من المحيط إلى الخليج كعمل بانورامي ساخن في الساحة الإعلامية العربية والعالمية.
في هذا السياق أتذكر صورة الشاب أحمد فرحان رحمه الله من البحرين الذي قتل بصورة وحشية حتى تشعرك أنّ ذلك حدث في حرب وليس في مظاهرات سلمية في الأسابيع الأولى لثورة البحرين. هذا الصورة التي لا يختلف أحد من العارفين أنها من أكثر الصور التي تم توظيفها ونسبها إلى مناطق الحراك والصراع في العالم العربي، فقد نسبت إلى ما يحدث في سوريا وقيل أن هذا الحدث في سوريا وأن الجريمة يقف وراءها جنود النظام السوري، وفي مصر قيل أنّ هذا أحد المتظاهرين الذين قتلوا على يد الجيش المصري، وفي اليمن بسيناريو آخر كذلك.
كانت لصورة الشاب فرحان دورٌ في التأثير على زيادة التظاهرات في الداخل وتعاطف الشعوب الخليجية مع الثورة البحرينية، مما أثار مخاوف الجهات الرسمية في البحرين، وخرج التلفزيون البحريني لينفي الصورة وينسبها إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. خليجيًا تم توظيف البعد الطائفي في أكثر من مشهدٍ مصوّر لمحاولة تحجيم التعاطف الخليجي مع مطالب الشعب البحريني أولّا، ولمنع انتقال تأثير الحدث ثانيًا.
وحقق هذا الفعل الإعلامي غير المهني نجاحًا معقولًا وذلك لوجود القدرة التوظيفية وصناعة رأي عام مُغاير وخلق صورة مغايرة سواء من خلال البرامج أو أجهزة تحرير الصورة، إضافة إلى وجود فكر ينسجم مع هذا المشهد ليصبح كأنه الحقيقة التي لا تقبل النقد والتفكير.
إنها الصورة التي تؤثر في سلوكنا، وتفكيرنا وتجعلنا نرى الأشياء بمنطق عالم الأقوياء وأصحاب النفوذ والمصالح دون أن يكون لنا أي دور في تمحيص أو غربلة ما يصلنا عبر مختلف الأجهزة.