الغدير غدير

إنّ كل أمّة متحضّرة تفخر بعظمائها وعلمائها الذين تركوا بصمة واضحة وأثرًا باقيًا يخلدهم ويعلي ذكرهم حتى بعد موتهم وارتحالهم عن هذه الدنيا..

ونحن في ذكرى عيد الله الأعظم عيد الغدير الأغر نبارك للعالم أجمع هذا العيد المظلوم والذي لم نعطه حقّه ولو أفنينا أعمارنا جاهدين في إحيائه، إذ أنّه المنعرج الخطير الذي حدّد معالم هذه الأمة المحمديّة، وما نعيشه في هذه الأيام من فتن وصراعات ليس إلا نتيجة طبيعية لانحراف الغالبية العظمى من الناس عن الوصية المحمدية الخالدة: من كنت مولاه فهذا علي مولاه..

ومن هنا نقف وقفة وفاء عند أحد العلماء المظلوم حقهم والمهضوم ذكرهم في أوساط الشيعة فضلاً عن غيرهم..

أنّه فريد عصره ونابغة دهره العابد الزاهد الورع التقي العلامة الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني التبريزي النجفي - قدس الله روحه الطاهرة - الذي أفنى حياته في كتابة رائعته وسفره العظيم كتاب «الغدير».

هذا الكتاب لم يكتبه العلامة الأميني في ليلة وضحاها بل كما ينقل ابنه الشيخ رضا الأميني أنّ أباه أفنى في كتابة هذا السفر العظيم 50 سنة أي نصف قرن كامل!

بل نقل أنّه كان يستوعب كلّ وقته يوميا إلا خمس ساعات منها يأخذ فيها قسطا للنوم والراحة، أي كان يعمل في الكتاب يوميا مدّة تسعة عشرة ساعة!

كما اضطرّ المصنّف للسفر لعدّة دولة ومدن لأجل البحث في مكتباتها عن الكتب والمخطوطات فسافر للهند وسوريا وتركياوليس فقط في المكاتب الشيعية أو السنية بل اضطر حتى للبحث في مكتبات بعض المخالفين الخاصة فكان يذهب لبيوتهم ويستجديهم كي يسمحوا له بمطالعة بعض الكتب النادرة

وقد ذكر الشيخ محمد الآخوند بأنّ العلامة الأميني أخبره: «إن كتاب «الغدير» كان حصيلة مطالعة أكثر من ثلاثين ألف كتاب»!

وقد استنفذ ذلك صحة العلامة الأميني حيث يقول نجله الشيخ محمد هادي الأميني عن والده:

«وكان «رحمه الله «يقضي الساعات الطوال في مكتبته الخاصة في داره بين الكتب التي يملكها أو يستعيرها، وكان يوصي زوجته وأطفاله أن لا ينتظروه على الطعام، وكنا كثيرا ما نضع طعامه على الموقد بغية أن يتناوله متى ما فرغ من بحثه وتحقيقه، ولما نستيقظ صباحا نجد الطعام على حاله كما وضعناه، وربما احترق بعضه، حتى أثر ذلك في جسمه وابتلي في أواخر عمره بسرطان في الفقرات، هذا ما أكده الطبيب المعالج له في طهران، قال: إن ذلك ناشئ من كثرة الانحناء والعكوف على القراء».

كما أن الطريق لم يكن معبدًا حتى بعد كتابة الكتاب حيث أن من مشايخ أبناء العامة من شكاه للحاكم الطاغية الطائفي نور الدين النعسانيليحاكم العلامة الأميني على كتابه بحجة إثارة الطائفية، ولكن باءت محاولاتهم بالفشل الذريع.

وقد تكللت هذه الجهود بصدور هذا السفر العظيم الذي قال عنه شهيد المحراب السيد محمد علي القاضي التبريزي: أنه لم يؤلف نظيره في الإسلام حتى اليوم.

وهذا ما يجعلنا نجزم بصحّة ما نقله بعض الفضلاء عن أحد علماء خوزستان الأجلاء، قال: رأيت فيما يرى النائم، كأن القيامة قد قامت، والناس في المحشر يموج بعضهم في بعض، وهم في هلع شديد، وفي هرج ومرج، كل واحد منهم مشغول بنفسه، ذاهل عن أهله وأولاده، ويصيح: إلهي نفسي نفسي النجاة، وهم في أشد حالات العطش، ورأيت جماعة من الناس يتدافعون على غدير كبير، من الماء الزلال، تطفح ضفتاه، وكل واحد منهم يريد أن يسبق الآخر لينال شربة من الماء، كما رأيت رجلا نوراني الطلعة، مربوع الجسم، مهيب الجانب يشرف على الغدير، يقدم هذا ويسمح لذاك أن ينهل ويشرب، ويذود آخرين ويمنعهم من الورود والنهل، عند ذلك علمت أن الواقف على الحوض والمشرف على الكوثر هو الإمام علي أمير المؤمنين ، فتقدمت وسلمت عليه فاستأذنت منه لأنهل من الغدير وأشرب، فأذن لي فتناولت قدحا مملوءا من الماء فشربته، ونهلت، وبينما أنا كذلك إذ أقبل العلامة الأميني «قد» فاستقبله أمير المؤمنين بكل حفاوة وتكريم معانقا إياه، وأخذ كأسا مملوءا بالماء وهم أن يسقيه بيده الشريفة، فامتنع الأميني في بادئ الأمر، تأدبا وهيبة، ولكن الإمام أصر على أن يسقيه بيده الكريمة، فامتثل الأميني للأمر وشرب، فلما رأيت ذلك تعجبت، وقلت: يا سيدي يا أمير المؤمنين، أراك رحبت بالشيخ الأميني، وكرمته بما لم تفعله معنا، وقد أفنينا أعمارنا في خدمتكم وتعظيم شعائركم، واتباع أوامركم ونواهيكم، وبث علومكم؟!! فالتفت إلي أمير المؤمنين وقال: «الغدير غديره».

كل ما ذكرناه هنا هو غيض من فيض ونقطة في بحر مما عانى وتعب في كتابة هذا السفر الجليل والكنز العظيم كتاب الغدير!

وإني أرجوا وإياكم أن تنالنا شفاعته، كما نرجوا أن تنالنا شفاعة من كتب الكتاب لأجله وهو صاحب الولاية أمير النحل ويعسوب الدين أمير المؤمنين صلوات الله عليه.