أنثى تموت واقفه

دق جرس المدرسة وأخذ الكل يستعد كادر التدريس والطالبات لليوم الدراسي.

وبعد التحية والسلام والإذاعة الصباحية للمدرسة.

انتظمت الطالبات في الفصول.

وبدأ النشاط الدراسي وفي وسط الدرس شد انتباه المدرسة جسم غريب.

عادت النظر ثم عادت النظر وهي في دهشة.

نظرت طالبة قد تقوقعت على نفسها.

سألتها عن شخصيتها وعن تواجدها في هذا المكان؟

وقفت الطالبة بكل أدب واحترام، وعرفت عن نفسها.

ثم خيم على زوايا الفصل الهدوء والصمت العميق.

لا المدرسة قطعت الصمت ولا الطالبة كسرت شموخها وكبريائها.

حدقت المدرسة في معاني ندى.

قرأت خطوط متعرجة وعبارات مشفرة.

لم تعلم عن براءة الوجه غير الاسم.

وندى بحروفها الندية وشموخها الثابت، لم تطاوعها أناملها في كسر كبريائها.

وتنقلت ندى بين دفات ذاكرتها.

وكانت السبورة شاشة العرض وعقلها محرك لشريطها السينمائي.

ولم تستطع المدرسة بذكائها وخبرتها في الحياة أن توقف العرض.

وحدقة عينها الحادقة لم تمكنها من مشاهدة أحداث العرض السينمائي.

رفعت المدرسة يديها لتبعد الغشاوة عن عينيها حدقت النظر.

ثم تبعثرت الحروف وضاعت الكلمات وهي تقرأ العبارة «End».

وارتعشت أنامل المدرسة وهي تلامس جسد ندى.

وتعالت الأصوات من حناجر التلميذات.

وشقت المديرة طوابير المدرسات والتلميذات.

وخانتها يديها وخذلها لسانها.

وتجمدت حدقت عينيها وهي تنظر إلى ندى.

وتوقف الزمن لدقائق.

سقطت ندى على أرض الفصل.

وتنطلق حروف مدرستها لتجلجل أركان المدرسة ماتت بشموخها مفتخرة بكبريائها.

«يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي» ‏.

وتنقطع مدرستها عن العالم بصمتها الحزين وألمها الدفين.

وهمزة الوصل ملامح ندى الملائكية تؤنس وحدتها.

وتكسر صمتها للمعرفة.

وتنثر ملف ندى.

وتقرأ أوراقها.

طالبة تم نقلها للمدرسة، وشهاداتها الدراسية تثبت ذكائها ونشاطها المتميز.

وتميزها الصحي، وعباراتها مع مدرستها، كلها تثني على تألقها العقلي والجسدي.

تاهت مدرستها في أسطر أوراقها، وتشتت بين الحروف.

أما ندى فاختصرت المسافات ورحلت روحها الطاهرة بسلام إلى خالقها.

تحمل كبريائها وشموخها وسمو أخلاقها على أكفها الندية.

بعودها الأخضر، وعمرها الربيعي، وسنوات الألم والحرمان.

جمعتها في قلبها وقبرتها، قبل أن يغيب جسدها الطاهر.

وغُسلت بدموعها الملتهبة، وتكفنت بلوعة الفراق، وحنطت بجراحات السنين، ونثرت على قبرها رياحين آلامها.

وعند جنة قبرها احتضنت مدرستها رياحين ترابها.

ونادت ندى مدرستها من عالمها البرزخي لتقرأ معها فصول آلامها.

ولكن حجاب الدنيا حجب مدرستها عن العالم الملائكي.

وقرأت ندى فصل الطفولة.

طفولة قهر وحرمان ممن هو نبع الأمان.

وأم قد تكسرت في داخلها معانيها، وتقبر أمومتها وتقتل حروف حنانها على شفتاها الذابلتين.

وتكبل وتغل أنامل بحرها الجاري ممن أختارها سندًا له في الحياة.

وتلمح عيني الخوف في بريق أمي وأقرأ دموع حزنها وعجزها عن التواصل مع قلبي الصغير.

ولكن تواجدي بين أحضانها جنة أتنفس عبير حنانها بين زهورها الذابلة.

وتغل أنامل أمي وتكبل بأسوار لم تصنع ولم تصاغ بل أحكم الوثاق.

وتلملم أمي أشلاء أمومتها المتناثرة على سواحل الألم.

وتغسل بنثر الملح على جسدها المبتور.

وكبريائي وشموخي المحدود أكل بقية أعضائها المبتورة.

وتخلد أمي إلى صراخها وتعجز أذني عن سماعها.

وتعمى عيني عن النظر إلى دموعها.

وتعجز أناملي عن مسح دموعها الندية.

ولم يعجز لساني عن ملاحقتها وتهميشها.

وقرأت ندى عن الشباب المتألق.

وماكسبت منه من تعمق الفجوة بينها وبين والدتها.

وكيف كانت حاجزًا من الحديد يصعب اختراقه؟

وتقذف الكرات الملتهب على والدتها من خلفها، وتهشم صدر والدتها.

وتحتضن الأم لهيب الكرة، ليصعب عليها صدها، لا عن عجز بل حتى شظاياها لا تلهب فلذة كبدها.

تصرخ ندى أمي مزقتها أنامل الحقد والقسوة.

أمي قتلتُ في قلبك معاني الأمومة.

أمي قبرتُ حروف حنانك.

أمي بيدي أو بتفكيري المحدود أو... أو... أو... حذفتك من عالمي الجميل.

أمي... أمي... أمي.

هل تسامحيني على كل دمعة وكل لحظة حزن وعن سهام حروفي القاسية إليك؟

تصرح ندى من عالمها.

أمي هل تسامحيني؟

تقف المدرسة تحية إجلال وتقدير.

ترد التحية بحب وحنان.

ترفع المدرسة نظرها.

امرأة تجر خلفها أذيالها، وترفع أقدامها عن الأرض بتعثر.

جلست عند قبر ندى.

وجلست الأفكار والاستفهامات في عقل المدرسة.

من تكون؟

من هذه السيدة المحترمة؟

هل أبدأ بالسؤال؟

لا... لا... لا ربما لا تسمع، ربما جدة ندى.

لماذا هي وحيدة؟

أين من يهتم بها؟

وحروف بكاء السيدة حملت بينها بلسم للمدرسة.

الآن ياابنتي كسرت كل العوالق بيننا، وتبعثرت كل سنوات الحرمان.

هنا ارتوي من حبك، هنا أمومتي بدون حرمان، هنا أفتخر بشموخك.

هنا أشم عطرك الفواح، هنا تطرب مسامعي بحروفك.

هنا تمزقت أبجديات الآهات.

هنا احتضن تراب ضم جسدك الطاهر ليطهر قلبي من أحزان السنين.

ابنتي أرقد بسلام.

ابنتي انتهت رحلت التشتت والشقاق.

ابنتي لم تحجبني عنك المسافات.

ابنتي لم يغيب طيفك الطاهر رغم كثرة الترحال.

ابنتي لم يضمك التراب.

قاطعت المدرسة السيدة وقالت لها: من أنت؟

قالت والدة ندى: أنا!

قالت المدرسة: نعم أنت.

وهل بيننا من يسمع السؤال؟

قالت والدة ندى: أنا من نظرت إلى فلذة كبدها وهي تتلاشى.

أنا من نظرت إلى ربيع زهرتي تذبل.

أنا من نظر إلى من بيده سحق زهوره الغناء.

أنا أم الكبرياء والشموخ.

أنا أم العز والعطاء.

وضعت والدة ندى أناملها على قلبها وقالت: هنا قبر ابنتي ندى.

وخيم الصمت الحزين والبكاء بدون دموع.

وهمسة المدرسة في قلبها.

أنثى تموت واقفه.