وداعًا أمي

زكية العبكري

تسير أقدامي بين ممرات وأقسام المستشفى , فهذا أول يوم في حياتي العملية في هذا المستشفى .

وشد انتباهي جلوس امرأة على كرسي متحرك , اقتربت منها , وبادرتها بالتحية , والسؤال إن كانت تحتاج إلى مساعدة للعودة إلى سريرها الأبيض .

قالت : شكرًا ابنتي بدموعها !!!

شد بصري ملامح وجهها , وغاص قلبي بين تجاعيد وجهها .

وأفاقت أذني على صوتها .

واصلي عملك ابنتي .

لا . لا أمي سأواصل حديثِ معكِ .

غدًا يبدأ العمل , اليوم تعارف على طاقم العمل والمرضى وأخذ فكر عن كل مايدور في هذا المبنى .

عرفها قلبي من نبرات صوتها وشهد بصري , إنها أم حسن , أعز صديقة لوالدتي يرحمها الله .

ونسحب لساني من مكانه .

وقال : أم حسن كيف حالكِ ؟

أنا فاطمة ابنة صديقتكِ أم أحمد !!

رفعت أم حسن رأسها والدموع بللت كل تجاعيد وجهها .

عذرًا ابنتي فدموعي حجبتني عن العالم .

ضمت فاطمة أم حسن إلى صدرها , كما ضمت أم حسن فاطمة إلى صدرها .

ولكل واحدة معنى أو معاني لهذا الحضن الدافئ .

أما فاطمة رأت والدتها التي فقدتها , وهي لا تزال زهرة لم تتفتح براعمها بعد , وشمت رائحة الوفاء والصداقة الحقيقية .

وأم حسن أغدقت على فاطمة حنانها وشوقها لأبنائها , و حنينها للماضي وذكرياتها مع أختها أم أحمد .

تنهدت أم حسن وقالت : ابنتي فاطمة عذريني عن عدم التواصل , فحياتي مثل الرحى طحنت كل أعضائي , ولم يسلم من الرحى إلا دموعي البالية .

وبلمساتها الحانية ضمت فاطمة أم حسن إلى عالمها .

واجتهدت لتقرأ تجاعيد الزمن وغاصت في قلبها المحترق بنيران فقد الأبناء , وأطلقت العنان لحروفها الشعبية , أن تتغلغل في عقل فاطمة , وتفهم معنى كل حرف , وتقرأ سطور حرمانها , وتترجم معاني الغدر والحرمان .

أم حسن حرمها القدر من أختها ومن تقاسمت معا هموم الحياة , لتسحب أذيالها من مسرح الحياة , وتحتضن ألم الفراق بمفردها , ويطوقها القدر من الخلف ويطعنها في ابنتها وتسيل دمائها على الإسفلت , وتزفها إلى قبرها قبل أن تزفها على زوجها الحالم بيوم العودة إلى مدينتها الهادئة .

ويلتهب قلب زوجها حسرة على شباب ابنته , وينخر عظامه المرض , ويرقد بسلام بجوار ابنته في أقل من سنة .

وترى النور والأمل في ابنتها الكبرى سكينة , وفي أحفادها من ابنها حسن وابنتها سكينة .

وتلتف الأيادي الشيطانية والألسن الحاقدة .

وتودع سكينة أفراحها كما ودعت أولادها , وتحمل أحزانها , وتطرق باب الشقاء والحرمان .

ويلتف على جيدها حبائل الشيطان , وتلهث مع أخيها من دائرة إلى أخر , لتطهر نفسها من خبائث زوجها , ومن شاطرته الحياة وأهدته ثمرة قلبها  خمسة براعم تفوح منهم رائحة المسك والعنبر .

وتُحرم من ضمهم إلى صدرها , ويصعب عليها أن تعرض أقمارها إلى ما يخدش طفولتهم وبراءتهم , وتكتفي سكينة بالنظرِ إلى براعمها من بعيد بدموعها الملتهبة بنيران الفراق وألم الغدر .

وتُكافأ سكينة على سنوات تعبها وسهرها ويرد إليها الجميل في أبها حلى .

 ويحكم عليها بقضاء عدت سنوات من عمرها تحت أغلال وقيود السجن المظلم .

وكأن القدر نعمهُ لا حصر لها , ويسكنها المرض قبل أن تطأ أقدامها أبواب السجن .

وترقد على السرير الأبيض , فقدت الإحساس بالحياة , ولا تملك إلا الألم .

بهدوء وبدموع تسيل قالت أم حسن : ابنتي فاطمة لما تأخر الطبيب مع ابني حسن , وأشارت أم حسن إلى إحدى الغرف أنهم بالداخل , طمأنت فاطمة أم حسن , واستأذنتها لتجلب لها خبر يسر قلبها .

قرأت فاطمة أوراق سكينة , وإنها تستعد لتزف إلى مثواها الأخير .

 قال قلب فاطمة : لا. لا هذا أول لقاء بعد طول غياب , لا تكسري الصدر الحنون .

قالت فاطمة : عذرًا أمي هناك حالة طارئة في قسم الطوارئ يجب أن أغادر , وداعًا أمي .

خرج حسن من الغرفة وأخذ بيد والدته وقال لها : أختي سكينة طال انتظارها لنا , لندخل الفرح والسرور على قلبها.

نظرت أم حسن إلى وجه ابنتها سكينة فهمت كل ما كان يدور خلف الأبواب المغلقة .

جمعت سكينة كل قوتها لتبتسم في وجه والدتها .

وغالبها المرض , نادت أم حسن ابنتها سكينة , واستجابت سكينة ولكن لصوت المرض .

وقالت سكينة : أمي عندما يكتحل نظركِ بأبنائي , لا تخبريهم عن ظلامتي ولا عن مرضي .

كانت فاطمة تنظر من خلف الأستار وتسمع همساتهم , وقلبها يعتصر ألمًا على والدتها أم حسن , وعلى سكينة و سنوات عذابها , وعدم ترطيب شفتيها بالنظر إلى أبنائها , وتقترب سكينة من وداع الحياة الفانية , ولم تستطيع أن تودع أبنائها , رغم مرور ثمان سنوات على انفصالها عن الحياة الزوجية , واليوم تنفصل عن سنوات الشقاء والبحث عن براءتها .

أما سكينة غلبت مرضها للحظة , نظرت إلى أمها وقالت : أمي أنا أودع اليوم عذابي وأودع أمراضي أنا أتماثل لشفاء , أنظري أمي !!

علا بكاء ونحيب فاطمة !!

شد انتباه أم حسن وقالت بقلبها المهموم : ابنتي فاطمة , ماذا حل بكِ ؟

بدموع فاطمة قالت : أمي . أمي .

ووقف الكلام في حنجرة فاطمة !!

وقالت سكينة : ما لم تستطيع أن تقوله فاطمة !!

قالت : وداعًا أمي !!!

وسلمت روحها إلى خالقها .

احتضنت فاطمة أم حسن قبل أن تقع على الأرض .

انهارت فاطمة !!

صرخت فاطمة وداعًا أمي .

قالت أم حسن : وداعًا ابنتي . وداعًا ابنتي .