العقيدة الراسخة

 

الإيمان والعقيدة الراسخة في النفس البشرية , لا تهز ولا تزلزل الكيان الإنساني . وخاصة إذا لِعق هذا الرحيق من أهل العز وبيت النبوة , وذابت النفس في عشق الولاية , وهامت في حب أبناء الأطهار .

فهذا العشق يسمو بالروح إلى خالقها , ليمسح الخالق على الجسد من فيض جماله , وتتجلى صورة هذا الجمال على مخلوقه , ويحمل المخلوق هذه الصفة , ليشكر الباري على نعمه , وتفضله عليه بهذه النعمة , ويصهر الجسد في عبادة الواحد الأحد .

وقد تفضل الله سبحانه وتعالى على عبده عبدالله بهذه الميزة , وحمل الجمال الرباني في الظاهر والباطن .

رغم المحن المتواترة على عبدالله فإنه .

لم يحرف وجهه عن القبلة ؟

ولم يسبل يديه عن الدعاء لله ؟

ولم يفرغ قلبه من ذكر الجلالة ؟

كان عبدالله يحترم جميع البشر .

كما كان يتفانى في خدمة المخلوقات .

سارا عبدالله لقضاء حوائج أهله , وفي الزقاق سمع صوت ينادي عبدالله . عبدالله  .

حينها عبدالله لم يدرك أن المنادي كان نداءه عشوائي . ولم يقصد عبدالله بعينه بل رمية من غير رامي .

أجاب عبدالله . نعم . نعم .

قال المنادي : تفضل هذه الأمانة أني أضعها عندك فلا تضيعها .

قال عبدالله : أن شاء الله لن تضيع الأمانة حتى لو على قطع هذه وهو يضع يده على رقبه .

واختفى المنادي فجأة كما ظهر فجأة .

وسمع عبدالله صهيل الخيل ونظرا بريق السيوف .

وعلا صوت أجش توقف . توقف .

قال عبدالله : أنا !

قال قائد الكتيبة : نعم أنت .

هل يوجد أحد غيرك ؟

ونادى القائد بأعلى صوته : أقبضوا عليه أنه القاتل !

ذهل عبدالله لسماع الخبر .

ولم يدرك تفكيره البسيط كيف يتصرف ؟

أو ماذا يفعل ؟

حملت أقدام عبدالله إلى بيت اشتهرت صاحبته بفعل كل ما هو محرم وترك كل ما هو محلل .

جالا عبدالله ببصره في زوايا البيت , ووقع نظره على صاحبة البيت .

تمنى عبدالله لو أن الأرض تنطبق على جسده , أو أكل التراب كل محاسن جسده من أعوام قد خلت , وكان نسيًا منسيا .

ولكن إرادة الخالق بأن يضع عبدالله في هذا الامتحان الصعب .

فالخروج من البيت أثبات جريمة القتل عليه .

والبقاء في البيت أثبات جريمتين .

أما صاحبة البيت فقد خالجها الفرح والسرور بمجرد أن وقع نظرها على عبدالله .

رأت الجمال الإلهي والنور المحمدي يتلألأ في قسمات وجه عبدالله .

بادرت عبدالله في السؤال .

وسألت عن سبب تواجده في بيتها !!!

عن السكين التي تقطر بالدماء !!!

أخذ عبدالله جانب السكون والسكوت , ولم يرد عليها .

ثم سألت عبدالله عن سبب الصياح والأصوات العالية في الخارج !!!

ومن هو القاتل ؟

أدرك عبدالله بأنه وقع في مأزق لا يستطيع الخروج منه !!!

وأدركت صاحبت المسكن بأنها حصلت على مرامها , فعبدالله لا يستطيع الخروج !!!

هيأت صاحبة المسكن نفسها لإغواء عبدالله , فقد تلبسها الشيطان وزين لها كل محرم .

أما عبدالله فقد هيأ نفسه لعبادة الواحد الأحد , وأخذ يناجي ربه , ويتوسل بمحمد وعترته الأبرار , ويقسم على الله بحق أهل البيت وظلمهم , وبكل لحظة ألم احتضنت جسدهم الشريف .

علا صوت الباطل من صاحبة البيت , وعلا صوت الحق من عبدالله .

لم يكن عبدالله يسمع صوت الباطل , فقد عزل نفسه عن عالم الماديات , وضلت روحه ترفرف نحو عبادة الله متلذذة بمناجاة خالقها .

أما صاحبة البيت فإنها قطعت ليلها الطويل في إغواء عبدالله , ولم تفلح جميع خططها لحرفه عن خط المناجاة .

رغم كل المحاولات الذي بذلتها , رأت عبدالله يزداد تعلقه بخالقه , كلما زادت في كلامها الشيطاني .

رأت العشق والحب والوفاء من عبدالله للواحد الأحد .

وأخرس صوت الشيطان دقائق .

وصرخ النقاش الحاد والعنيف في داخلها .

وخيم الصمت في زوايا نفسها وأركان مسكنها .

أما عبدالله فأخذ يحدثها عن العشق الإلهي والحب المحمدي , بمفردات بسيطة , وجمل جميلة , وبعبارات واضحة .

وأطرقت صاحبت البيت برأسها إلى الأرض خجلًا وحياءً , مما ارتكبت من منكرات ومحرمات في حقها وحق الآخرين .

أدركتها السعادة وشملتها العناية الربانية , ببركة عبدالله ومما رأت وسمعت من لين الكلام من عبدالله .

تحاورت مع عبدالله عن التوبة , وعن غفران ذنوبها , وعن تقبل أعمالها , وعن الصراط المستقيم .

 قال لها عبدالله : أن الله تواب ويحب التوابين .

ولكن بشرط .

قالت صاحبت البيت : وما هذا الشرط ؟

قال عبدالله : بشرط أن تكون التوبة نصوحة , والعزم على ترك كل ما هو محرم , ونبذ جميع الأعمال المحرمة , وعدم الرجوع إليها , تحت إي ظرف أو ضغط من ضغوط الحياة .

وبرقت دموع صاحبت المسكن ندمًا وألمًا , لضياع حياتها وسنوات عمرها عبثًا , ولمع عمود الفجر .

وقفت صاحبت البيت ورفعت دموعها وناجت التواب الرحيم , بأن يتوب عليها ويتقبل عملها , ويهديها إلى سبيل الحق . 

وتشرق الشمس , ويشرق الأمل من جديد , وعبدالله لم يدرك ما يخبأه له القدر , وأن العناية الإلهية قد شملته .

معذور عبدالله فهو لا يعلم الغيب , وليس مطلع على كل ما يدور خارج أسوار المسكن المختفي به .

مشى عبدالله خطوات نحو باب الدار للخروج من البيت , وعقد نيته على مواجهة المصير المجهول , وما يخبأه له القدر .

بينما عبدالله يهم بالخروج , سمع صوت ضعيف ونحيب مبلل بالدموع .

لا تخرج فأنا لم أتعلم من تعاليم الإسلام ؟

ولم أنهل من بيت النبوة ومعدن الرسالة شيء؟

أجلس وأفيض عليَّ من بحور العلم وبعث الحياة في قلبي ونور عقلي ؟

قال عبدالله : أعلمي أنك منذوا اللحظة التي عقدتي نيتكِ على ترك المعاصي , وأحببتي التوبة , وعشقتي درب الولاء , فأن الله لا يتخلى عنكِ , ونور هدايته سيتسلل إلى قلبكِ , ويمتلك كل تفكيركِ وكيانكِ .

خرج عبدالله من البيت والأمانة في يديه يحفظها مثل عينيه .

سار بين الزقاق وهو يشكر ربه على نعمه , وخاصة نعمة الهداية التي تمت على يديه للمرأة لتصبـح عبـده لله وحده , لا عبده لشهواتها ولا ألعوبة في يد الشيطان .

وسمع عبدالله صوت من بعيد ينادي عبدالله , تمعن عبدالله في الصوت , فهي نفس النبرات السابقة .

توقف عبدالله .

وإذا بالرجل صاحب السكينة يهرول نحو عبدالله .

بادره عبدالله بالسؤال من أنت ؟

وما قصة هذه السكين ؟

لتقطع جيوش الكتيبة ورجال العسس الكلام عليهما .

وخرج صوت من رئيس العسس أجش وغليظ توقفا .

توقف عبدالله مع صاحب السكين .

قال رئيس العسس وهو يشر إلى عبدالله : لقد ثبتت لدينا براءتكِ بالدليل القاطع .

سجد عبدالله لله شكرًا . وحمد الله على نعمة السلامة .

وسقطت الأقنعة أمام عبدالله وتجلت الحقيقة واضحة أمام عينيه .

قال رئيس العسس : ليعلم الجميع , والحاضر يعلم الغائب .

نحن رئيس العسس والمكلف من الحاكم الشرعي على البلاد في التحقيق في جريمة القتل , والذي حدثت في أطراف المدينة , قد ثبت لدينا مايلي :

عبدالله بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب .

المقتول هو من قطاع الطرق والمسجل في دواوين الدولة .

والقاتل كان في حالة دفاع عن نفسه وعرضه وأمواله , وهو من تجار القرى المجاورة .

وارتسمت على وجه عبدالله علامة !!!

وكذلك على وجه رئيس العسس !!!

لاحظ صاحب السكين العلامة .

 وقال : رئيس العسس عبدالله , لا تتعجبا من هذه السكين التي تقطر دمًا , فهذا دم خروف لا دم إنسان .

قال صاحب السكين : كنت في زاوية من زوايا المزرعة مع الخروف ولم يكن أحد يراني إلا الله تعالى , ولم أدرك بأن ابني الصغير قد رأى عملية ذبح الخروف , وارتجف مما رأى وولى هاربًا , وخفتُ على ولدي لو رأى السكين لاتزال في يدي , فأمنتها هذا الرجل الصالح وقد حافظ عليها .

وهذا ابني قد عاد إلى أحضاني بعد تفهم كل شيء , وإن ذبح الخروف كان بقصد توزيعهُ على الفقراء والأرامل والمحتاجين من أهل القرية .

رفع عبدالله كفوفهُ إلى السماء ومد بصرهُ إلى رحمة الله .

وقال : الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه .

والحمد لله على بزوغ شمس الحقيقة .

والشكر لله على ما أنعم .

والشكر على نعمة الهداية للمرأة ولصبي .

والحمد لله على تخليص المسلمين من أذى قاطع الطريق .