التطرف الفكري ومسؤوليتنا الاجتماعية

تُعوِّل المجتمعات والروافد التعليمية والثقافية على مفكريها ومثقفيها في تغيير وتحسين وتطوير واقعها، عبر ما تنتجه هذه الفئة الواعية من فكر وثقافة توسعية وشاملة وحديثة؛ إذ إن هذه المجموعة النخبوية الفكرية تتحمل ثقلها وثقل غيرها في تغيير واقعها، وتتحسس حاجيات المجتمع وعلى كل مستوى وصعيد، ويُعد المجتمع وأبناؤه بالنسبة إليها أحد أهم ما تحمله من هاجس فكري وروحي ونفسي، ومن أهم همومها ووظائفها الاجتماعية والإنسانية.

وما تنتجه هذه النخبة الثقافية من فكر تجديدي إلى مجتمعاتها يتبلور في ثقافة ووعي فكري وسلوكي، تثري به الساحة الثقافية المجتمعية، مما تصنع منه تموجًا وحراكًا ثقافيًّا توعويًّا يدفع بنبضات قلب المجتمع إلى التغيير من حالة البؤس إلى ضفة السعادة، ومن الفقر إلى الرفاهية، فيدفعه نحو تصحيح وتطوير بعض المسارات الفكرية، وبعض المفاهيم الخاطئة أو الرجعية، وإضافة مفاهيم وأفكار تنموية تجديدية تدفع بأفراد المجتمع وكيانه إلى التقدم والنهوض ومقارعة الجهل والتخلف بتحديث كل مكونات المجتمع، لكي يصبح المجتمع كبقية المجتمعات المتحضرة عبر تحديث مكوناته، ودخوله في سباق مع التحضر المستمر ودفعه نحو ركب الحضارة والتحضر والتمدن.

وما يعلمه الجميع أن هذه الوظيفة الفكرية الإنسانية الاجتماعية، ليست من الوظائف السهلة الذي ينهض بها المفكرون والمثقفون؛ لأنها مرتبطة بالعقل والحكمة وعامل الزمن، وكل شيء يرتبط بالعقل، فإن ثماره تنضج متأخرة وبطيئة، وتحتاج وقت حتى تقطف تلك الثمار التي طال انتظارها، وهذا يتطلب المثابرة والمجاهدة والمناضلة من كل الأطراف الفاعلة والمؤثرة، وعليهم أن يتحلوا بالصبر والتريث حتى تحقيق الأهداف المرجوة، وهذا عكس ما نراه في الاتجاه الآخر بما يخص الأمور المرتبطة بالعاطفة، إذ تكون سريعة التفاعل دون الحاجة للرجوع إلى استشارة العقل، لأن العاطفة في هذه الحالة قد تسلطت على العقل بشكل كامل وسلبت كل قنواته الفكرية، ولهذا ترى غالب هذه الحالات المرتبطة بالعاطفة تكثر أخطاؤها ويوصم أصحابها بالعاطفيين.

يقف أمام هذه الفئة الفكرية والثقافية الواعية بزمانها والمستشرفة لمستقبلها والمستوعبة حركة ماضيها وهويتها، عند أدائِها لوظيفتها الفكرية والإنسانية والاجتماعية، باصطدامها بعائق إسمنتي اجتماعي صلب من بعض المختلفين والمخالفين إليها في الفكر والتوجه، وهذا ما يطلق عليه مفهوم الاختلافات والخلافات البينية بين بعض التيارات الفكرية والثقافية والاجتماعية، وفي بعض الأحيان تضطر هذه الفئة النخبوية المخلصة أن تضحي بسمعتها أو تعرضها إلى الأذى النفسي، وقد يصل بعض الأحيان إلى الأذى الجسدي، وذلك في سبيل قيمها ومبادئها التي تحملها على عاتقها، وفي سبيل تغيير واقع مجتمعها إلى الأفضل.

وتنقسم الفئات الفكرية والثقافية إلى نوعين: نوع يمتلك الشهادات العلمية العليا والمعرفة والدراية، ولكنها فارغة من المحتوى الأخلاقي والإنساني ومن العطاء الفكري والاجتماعي، وكأنها فئة منعزلة اجتماعيًّا، وغالبًا ما تتسم هذه الفئة بحب الذات والعجب بالنفس والإطراء الشخصي والإشادة إليها بالبنان، وتتصف أيضًا بالتعالي والتفاخر وحب الأنا، وهذا النوع من الفئة العلمية لا يُعَوِّل عليه المجتمع ولا يصرف نظره إليها، بحكم أنها لافظة يدها من أية مسؤولية اجتماعية، إذ تتوهم أنها تسكن في قصور عاجية، وتشعرنا أنها من طبقة تفصلنا عن بقية الطبقات الاجتماعية الأخرى، ويصعب عليها النزول إلى من هو أدنى منها مستوى، وبالتالي هي ليست المعنية أو المقصودة أو المرجو منها المشاركة لتغيير واقع المجتمع، فإذن هذه الفئة خارج صندوق نقاشنا.

النوع الآخر، وهي النخبة الفكرية والعلمية والثقافية والمعرفية التي تشعر بالمسؤولية تجاه مجتمعاتها، فهي تعدُّ نفسها من المجتمع وإلى المجتمع، ومن أبرز سمات هذه النخبة الفكرية والثقافية أنها يغلب عليها الطابع الأخلاقي والإنساني والاجتماعي والرغبة في التفكير الجمعي، ويلحظ أن أخلاقها مقدمة على ما تحمله من فكر وعلم وثقافة، والسمة الأخرى أنها تحمل هموم مجتمعها في الحاضر والمستقبل، ومثل هذه النخبة الأصيلة هي مَن يُعَوِّل عليها المجتمع في التغيير والتطوير، بل هي عصب الحراك المجتمعي، وتتبنى مشروعًا نهضويًّا وقيمًا إنسانية، وهذا هو محل النقاش.

أود الإشارة إلى جهة مهمة ومؤثرة اجتماعيًّا، وهي الفئة المرتبطة بهذه النخبة الفكرية الناشطة والفاعلة، وهم المجموعات المثقفة التي تقف خلف هؤلاء المفكرين، وما يعبر عنهم بالأتباع، وهم جزء من المجتمع، ويطلق عليهم الحاشية أو البطانة، وهذا التكوين أو التنظيم الثقافي من الأمور الطبيعية، إذ إن المجتمع متنوع في القناعات الفكرية والثقافية، ومن هذ المنطلق يتبع كل شخص ما يميل له فكره وما يناسب ثقافته، بل يعتبر جانبًا من الحريات الشخصية التي لا يعترض أحد ولا يقف ضده أي توجه، ما دام الجميع يعيش تحت مظلة ثقافة السلم الاجتماعي.

وبالعودة قليلًا، ذكرنا سابقًا أن وراء هذا العطاء الفكري والثقافي الذي يصب في أعماق المجتمع من قبل هؤلاء النخب حالة من الحراك الثقافي، وأن هذا الحراك يحدث فيه تجاذبات وسجالات واختلافات في وجهات النظر عند بعض المكونات الثقافية، وبعض الأحيان تصل هذه الاختلافات الفكرية بهذه المجموعات المختلفة إلى عدم قدرتها على إدارة هذه الاختلافات والتباينات الفكرية فيما بينها، وقد تشكل صعوبة في إيجاد الحوار بين بعضهم بعضًا، وفي حالة الطوارئ الكلامي، يأتي دور قادة هذا الفكر مع من يقف خلفها وينتمي إليها، بترويض الساحة الفكرية من المنازعات والخصومات والعدوات، وإدارتها بشكل عقلاني محكم، ومن ثَمَّ توظيفها في الجانب الإيجابي، والاستفادة مما يطرح من وجهات النظر المختلفة، لنجعلها تصب في الجانب البحثي، وفي كشف المزيد من المعرفة والتعمق العلمي أكثر، عبر تبادل وجهات النظر حتى نصل إلى قناعات أقرب إلى الحقيقة والواقع، بدلًا من توظيفها في الاتجاه السلبي وصناعة حرب سجالية كلامية ونفسية لا فائدة منها، وتنجر إلى تصفية حسابات شخصية، فضلًا عن تعكير الجو العام وإشغال أوقات الجميع وصرفها في أمور لا قيمة لها، وربما تصل بها إلى المنازعات والقطيعة والاحتراب بين أفراد المجتمع المختلفين في التوجهات الثقافية والدينية.

وقد يمتد هذا الاختلاف البيني في اتساع دائرة اللهب البركانية الفكرية المشخصنة، والتي يقودها بعض المتطرفين من هنا وهناك، بحجة الدفاع عن رموزها ومشروعها الثقافي والفكري، ضاربة بعرض الحائط كل ما كانت تؤمن به من تلك القيم والمبادئ التي تصدع بها في كل وقت وفي كل مناسبة ومن غير مناسبة.

ومما تخلفه لنا هذه الصدامات غير الأخلاقية من بعض عناصرها من امتعاض ونفور الجمهور من الساحة الثقافية، نتيجة ما شاهدته من سوء سلوك هذه الشرائح المجتمعية النخبوية، وتعري ضعف إدارة خلافاتها الفكرية بمنهجية متحضرة، وبُعدها عن اللباقة والاحترام، وإقصاء الرأي الآخر، وعدم السماح له حتى بالتعبير عن رأيه وإبدائه أمام المجموعات الأخرى بكل أريحية، وهو أقل الحقوق الإنسانية في العالم المتحضر.

وما دام الجميع ينعم تحت مظلة وثقافة السلم والشراكة المجتمعية، فمن المفترض والطبيعي من هؤلاء القادة والقامة الفكرية والمثقفة النخبوية ومن يلتف حولها أن تكون أنموذجًا أخلاقيًّا أولًا وآخرًا، وإن الخلافات الفكرية لا ينبغي أن تكون حاجبًا عندما تتباين الآراء، ولا ينبغي لأي جهة أن تقوم بدور تخدير الحس النقدي للآخر.

بل الواجب أن نعتبر ناتج تلك الاختلافات الفكرية والثقافية أمرًا طبيعيًّا يحصل بين المكونات الاجتماعية المختلفة، وغير الطبيعي عندما يكون كل الناس على اتفاق، ولو فرضنا حصل هذا الاتفاق الفكري، ينبغي إيجاد خلاف له لأجل تنمية الحركة الفكرية في الوسط الفكري والثقافي، لكي ينتج فكرًا إضافيًّا يرفد حلقاتنا الثقافية، حتى لا يسبب جمودًا ذهنيًّا في الساحة الثقافية.

وهنا ينبغي إعادة صياغة المشهد الفكري والثقافي عند اختلافاتنا في وجهات النظر، ومن المعلوم بأن للمفكر والمثقف دورًا هامًّا تحتاجه كل المجتمعات، إذ لابد أن يتزامن مع هذا الطرح الفكري حالة من الروح الأخوية والإنسانية، ولا يضمن لنا بقاء تلك المنظومات الثقافية القيمة والإنسانية إلا عبر طريق التسامح والتعايش والسلم الاجتماعي، وهذا لا يكون إلا في حالة إيماننا بثقافة التوازن الاجتماعي والتنوع الفكري والعيش المشترك بين أفراد المجتمع.

وينبغي للحاشية أو البطانة لأي جهة فكرية كانت حين بروز الاختلافات الحادة في المجتمع، أن يتصدوا إليها عبر ترطيب الأجواء بكل السبل المرضية لكل الأطراف، وأن يسارعوا إلى ترميم الجسور بينهم عن طريق الحوار المتحضر والإنساني، وسرعة سد أية فجوة تعمق حالة الاختلافات بين المختلفين في وجهات النظر، بل السعي للتقريب بينهم، وهذا يأتي إذا وجدت النوايا الحسنة والإرادة الصادقة بين كل الأطراف المختلفة. حينها سوف نبعد عن كل أنواع التطرف، ونصفي ساحتنا الثقافية والدينية والاجتماعية من كل أنواع العداوات التي تمزق أبناء المجتمع، ولابد أن نركز على خلافنا في الفكرة فقط لا في ذات الآخر، أو مع الرمز أو الجماعة التي تنتمي لذلك الفكر أو الثقافة أو المشروع، وهذا في الحقيقة هو الدور المنوط بالمفكر والمثقف ومن ينتمي إليهم قبل أي دور آخر، لكي ننعم بمجتمع يسوده الأمان والمحبة والمودة والبركة والفائدة الفكرية والثقافية والأخوة الوطنية والمجتمعية.

كاتب رأي، وموظف في القطاع المصرفي.