التثبت قبل التصديق.. سلاحنا ضد أهل السوء
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾
سورة الحجرات، آية 6
القرآن الكريم كتاب هداية للبشرية جمعاء، لم يغفل صغيرة ولا كبيرة إلا وأرشد إليها، ومن بين ما ركّز عليه، قضية الأخبار ونقلها بين الناس، لما لها من أثر بالغ في استقرار المجتمع أو انهياره. فالآية الكريمة من سورة الحجرات جاءت كتحذير إلهي صريح من خطورة تصديق الأخبار دون تحقق أو تثبت، ولا سيما إذا كان ناقلها شخصًا مشبوهًا أو صاحب نوايا فاسدة.
إن مروّجي الإشاعات وأهل السوء لا يأتون إلى الناس بوجههم الحقيقي، بل يتقنعون بأقنعة زائفة، فيتظاهرون بالحرص والنصيحة والغيرة على المصلحة العامة، بينما يخفون وراء كلماتهم سهامًا مسمومة تستهدف المحبة والوئام. هدفهم ليس النصح، بل التفريق والتمزيق، وتفكيك أواصر المجتمع المتماسك، ليُحكموا السيطرة على مفاصله، ويوجهوه بما يخدم مصالحهم السوداء وخططهم الشيطانية.
وقد نبّه النبي الأكرم ﷺ إلى خطورة الكلمة المنقولة بلا وعي، فقال: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» هذه الحكمة النبوية العظيمة تكشف لنا أن الانسياق خلف كل ما يُقال دون تمحيص، ليس مجرد خطأ عابر، بل قد يصل إلى درجة الكذب ونشر الباطل.
إن الله سبحانه حين وجّه الخطاب في هذه الآية إلى المؤمنين، إنما أراد أن يحمّلهم مسؤولية أخلاقية ودينية مضاعفة، لأنهم أصحاب وازع ديني وعقلي، وهم الأقدر على إدراك عواقب التسرع. فالمؤمن الحق لا ينساق وراء الانفعال ولا يستجيب لنداءات الغضب اللحظي، بل يجعل العقل ميزانه، والشرع دليله، والرحمة حَكَمه.
ولعل من أبرز مخاطر الأخبار المضللة أنها لا تقف عند حدود الشكوك وسوء الظن، بل تتطور سريعًا إلى خلافات وعداوات، وقد تنتهي إلى قطيعة بين الأرحام، أو عداوة بين الأصدقاء، أو حتى إلى صراع دموي بين الإخوة. وهنا مكمن الخطر؛ إذ قد تُزهق أرواح بريئة بلا ذنب، إلا لأنها كانت ضمن الدائرة التي طالتها سهام القيل والقال.
ومن يتأمل في واقع مجتمعاتنا اليوم، يجد أن وسائل التواصل الاجتماعي زادت من سرعة انتشار الشائعات أضعافًا مضاعفة، فأصبحت الكلمة تصل إلى آلاف الناس في لحظات معدودة. وهنا تزداد الحاجة الملحّة إلى التثبت والتبيّن قبل إعادة النشر أو التفاعل، لأن الخطأ قد يصبح عامًا والضرر مضاعفًا.
لقد علّمنا القرآن الكريم منهجًا متكاملًا في التعامل مع الأخبار، التثبت قبل التصديق، والتحقق قبل الحكم، والتعقل قبل اتخاذ أي قرار. وهذه القاعدة الذهبية لو التزم بها الناس، لانطفأت نيران الفتن، وسقطت مخططات المفسدين.
ولنا في التاريخ الإسلامي شواهد عديدة على خطورة الأخبار الكاذبة. يكفي أن نتذكر حادثة الإفك التي اتُّهمت فيها أم المؤمنين السيدة عائشة ظلمًا، وكيف أحدثت تلك الإشاعة اضطرابًا في المجتمع الإسلامي حتى نزل الوحي ببراءتها. لقد كانت تلك الحادثة درسًا بليغًا في أن كلمة واحدة قد تهز أركان مجتمع بأكمله.
ومن هنا فإن رسالتنا اليوم واضحة، لا تعطوا أهل السوء فرصة للعبث بصفائكم، ولا تمكّنوا مروّجي الإشاعات من شق صفوفكم. فالمجتمع المتماسك هو الذي يجعل من التثبت والتبيّن قاعدة أساسية في التعامل مع أي خبر، صغيرًا كان أم كبيرًا.
إن مسؤولية مواجهة الشائعات لا تقع على عاتق جهة بعينها، بل هي واجب جماعي. كل فرد في المجتمع مسؤول عن الكلمة التي ينقلها أو يكتبها أو يعيد نشرها. واجبنا أن نتحرى الدقة، وأن نزن الأمور بميزان الشرع والعقل، وألا نسمح للعاطفة أو الانفعال أن يسيرا بنا نحو قرارات نندم عليها لاحقًا.
فلنجعل من وصية القرآن الكريم لنا دستورًا في حياتنا اليومية، التثبت قبل التصديق، والتحقق قبل الحكم. وبذلك نصون وحدتنا، ونحمي أرحامنا، ونبني مجتمعًا ينهض على الصدق والعدل، لا على الأوهام والأباطيل.