علاقة الخلقة بالفيض المقدس

الوجود مظهر تجلي الإسم الأعظم

الوجود هو مظهر تجلي وإشراق الإسم الأعظم من مستسر السر إلى ظاهر العلانية. فجميع عوالم الوجود هي مظاهر التجلي لهذا الإسم من مرائي بقية الأسماء والصفات الإلهية. ويرمز إلى هذا التجلّي للإسم الأعظم بالآية الشريفة «بسم الله الرحمن الرحيم»، وبالتحديد في كلمة «بسم» التي ترمز الى هذا التجلي العظيم والى الاستعانه بهذا الاسم للظهور والتجلي لجميع الأسماء والصفات، ولظهور جميع عوالم الوجود من العدم. ويرمز إلى هذا المعنى ما ذكر في الآية الشريفة من سورة الزمر «وأشرقت الأرض بنور ربها». وهنا كلمة الأرض ترمز الى عالم الملك، وبالتالي عالم الملكوت وجميع عوالم الوجود. وكذلك في الآية الشريفة من سورة النور «الله نور السماوات والأرض»، أي أن إشراق جميع عوالم الوجود من ظلمة العدم الى نور الوجود هو نتيجة الفيض والتجلي للإسم الأعظم.

والإسم الأعظم لا يحمله لا رمز ولا رسم ولا صفة أو أي شكل من أشكال التعبير أو التوصيف، فكان الإسم الجامع ولفظ الجلالة «الله» هو المرآة الأولى لتجلي هذا الإسم، ولذلك ذكر لفظ الجلالة «الله»، أو الإسم الجامع الظاهري بعد كلمة «بسم» التي ترمز للتجلي الأعظم. فالإسم الجامع هو المرآة الأولى لتجلي الإسم الأعظم، ويرمز له بالإسم الأعظم الظاهري. وكانت بقية الأسماء والصفات هي مرائي ظهور وإشراق وتجلي هذا الإسم. وفي الحقيقة فإن جميع الأسماء والصفات الإلهية هي مندكة في الإسم الأعظم، بل هي عين الذات، وما يذكر من توصيفات هي مجرد لتقريب المعنى للذهن بحسب قوانين عالم الملك.

مثال تجلي الأسماء والصفات

فالفيض الإلهي هو غاية الرحمة والتفضل على الموجودات لإخراجها من عتمة العدم، الى نور الوجود. والوجود هو مظهر تجلى جميع الأسماء والصفات الإلهية. فمثلا عندما ننظر إلى الشجرة، نرى تجلّي إسم الخالق، وإسم الإله، وإسم الرب، وإسم الرازق، وإسم البديع، وإسم الرحمن، وإسم الرحيم، وإسم المتفضّل، وإسم المدبر، وإسم الحي، وإسم القيوم، وجميع الأسماء والصفات. وذلك لأن الشجرة تحتاج إلى إله يخرجها من العدم، ورب يحافظ على إستمراريتها، ورازق يتفضل عليها بما تحتاجه من ماء وشمس وأملاح، وبديع الذي أبدع خلقها من غير مثال، وهي مظهر الرحمة الرحمانية عليها وعلى بقية الموجودات، وهي مظهر الهداية لمعرفته برحمته الرحيمية، والشجرة تحتاج إلى التفضّل للخروج من العدم، والى المدبر الذي يدبر أمر رزقها ووجودها، ووجودها من العدم تجلّي لإسم الحي القيوم، وهكذا بقية الأسماء والصفات. وهذا معنى تقريبي بسيط للآية الشريفة «وأشرقت الأرض بنور ربها».

دائرة الوجود

ثم بعد ذكر هذا التجلي العظيم، ترمز الآية إلى دائرة الوجود وقوسي النزول والصعود «الرحمن الرحيم»، وأن هذين الإسمين هم الغالبين لهذا التجلي الذي صدر عنه جميع عوالم الوجود. فالتجلي هو غاية الرحمة، والوجود بين كفي رحمة النزول الرحمانية ورحمة الصعود الرحيمية. فالوجود ليس لحاجة في الخالق والعياذ بالله، بل هو تفضّل وفيض ورحمة. فالخالق يخلق، والمبدع يبدع، والرازق يرزق، وإذا كانت جميع الأسماء والصفات هي عين الذات، يكون الوجود هو مظهر وتجلي جميع الأسماء والصفات. ونحن لسنا في صدد شرح وتفصيل البسملة، ولكن تم ذكرها لأنها ترمز إلى هذا الفيض والتجلّي ولتمام دائرة الوجود.

الفيض والتجلي غاية الوجود

معرفة الأسماء والصفات المعرفة الشهودية لا يكون إلا بتجلي نور هذه الأسماء والصفات على روح المؤمن، وهو غاية وجود الإنسان وكماله، بل غاية وجود الكون «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة». فوجود الخليفة الذي تتجلى فيه جميع الأسماء والصفات هو غاية الوجود. وعندما تتجلى الأسماء والصفات على روح الإنسان، يصبح مشكاة النور «الله نور السماوات الوأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح». وهذا التجلي هو الإيمان، وهو الدين كله، وهو الذكر، وهو النعيم المقيم «ولتسألون يومئذن عن النعيم»، وسوف يأتي تفصيل هذا لاحقاً إن شاء الله.

طلب الخليل إلى معرفة الأسماء والتجلي

تحدثت الآيات عن طلب الأنبياء إلى مزيد من معرفة الأسماء والصفات وتجلي الأنوار على أرواحهم. فهاهو نبي الله إبراهيم يطلب المزيد من إشراق الأسماء على روحه الطاهرة «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». إن طلب الخليل لهذا التجلي هو ليس لأنه لم يؤمن بقدرة الله على إحياء الموتى، بل ليزداد نور إشراق معرفة الأسماء في قلبه، ولمزيد من التجلي والفيض. إن طلب الخليل هو ليكون قلبه محلاً وبيتاً لذكر الله «قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي». فالطمأنينة القلبية لا تتحقق إلا عندما يكون القلب محلاً لذكر الله وتجلّي الأسماء والصفات.

الخليل يطلب مزيد من معرفة وتجلي الأسماء الحسنى بطلبه من المولى عز وجل أن كيف تحيي الموتى. فالإحياء يتضمن معظم بل جميع الأسماء والصفات، وإن كان بعضها ظاهراً في الإحياء، وبعضها باطناً. فالمحيي هو الحي القيوم، وهو الإله، وكذلك الإحياء مظهر تجلي إسمي الرحمن والرحيم، ومظهر تجلي إسم الرب، والدائم، وهكذا بقية الأسماء والصفات.

طلب الكليم إلى تجلّي الإسم الأعظم

إن غاية الأنبياء والصالحين هو معرفة الأسماء، ومزيد من تجلّي أنوار القدس والفيض على أرواحهم، فهم يطلبون المزيد والمزيد من تجلّي الأنوار الذي ليس له حد أو نهاية. فنجد الكليم عندما ذهب الى الميقات يطلب المزيد من معرفة وتجلّي الإسم الأعظم الذي تندك فيه جميع الأسماء والصفات «وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ». فطلب النظر هو تعبير مجازي - حسب قوانين عالم الملك - لطلب تجلي الإسم الأعظم على روح الكليم ولذلك قال «أرني أنظر إليك»، أي بمعنى إجعل روحي قابلة ومحل لتجلي الإسم الأعظم. ولذلك ذكر الكلمتين «أرني» بمعنى خلع الحجب عن الروح، «أنظر إليك» حتى تتمكن الروح من رؤية تجلي نور فيض الإسم الأعظم.

والشاهد في الآية «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا»، وهنا يظهر أن المقصود من سياق الآية هو تجلّي الأسماء والصفات، وليس النظر والرؤيا البصرية معاذ الله. والآية توضح عدم قدرة كليم الله على تحمّل تجلي الإسم الأعظم. ولذلك أوضحت الآيات إندكاك الجبل الأشمّ لبعض تجلي إسم الرب وليس الإسم الأعظم «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ». ونتج عن هذا التجلي إندكاك الجبل، وصعق الكليم «وَخَرَّ موسَى صَعِقًا». فالكليم صعق لرؤية مرآة التجلي، وهو يوضح عدم قدرة الكليم على تحمل هذا الفيض الذي تحمله الرسول الأعظم محمد ولذلك قال «سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ». فهذا المقام هو مخصوص للرسول الأعظم، وهو مالا يطيقه لا نبي مرسل ولا ملكٌ مقرب.

فاعلم أيها العزيز أن غاية الوجود هو أن يصبح قلب المؤمن محل لذكر الله وتسبيحه وتنزيهه وتجلّي الأسماء والصفات، وهذا هو النعيم المقيم، وهو غاية وجود الإنسان وكماله، وهو أن يكون محل لتقديس أسماء الله وصفاته. من أجل هذا التجلي والقرب تحمّل الأنبياء والأوصياء البلايا، وضحى الإمام الحسين بكل شي، وتحمل المصائب العظام لتقبل هذا الفيض العظيم، وليكون مرآة للنور وسبباً في هداية البشرية كما قال «الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة».