وتركوك قائما.. «2»
«وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما»
في حين كان الرسول الأعظم يخطب في المسلمين من يوم الجمعة، خرج غالبية من كان في المسجد عندما علموا بوصول قافلة تجارية، وتركوه قائماً. هل أن هذه الآية محدودة بتلك الحادثة، وبأولئك النفر، وبذلك الزمان فقط. أم أن لها أبعادا أكبر، ومعاني أعمق، ورسائل أشمل، تمتد عبر السنين، وتمس جميع الأزمنة والأوقات، وتحمّل المسلمين المسؤولية الكبرى، وتعظهم في أنفسهم.
من أسباب نزول الآية، هو أن قافلة تجارية وصلت إلى المدينة، وبدأوا بقرع الطبول. فانفض المسلمون من المسجد، بينما كان الرسول الأعظم واقفاً يخطب من يوم الجمعة. والآية ليست محدودة بسبب النزول فقط، وبالمسلمين الذين كانوا في المسجد فقط، بل إنّ آيات القرآن الكريم حركية ومستمرة إلى آخر الزمان، ويجوز أن تنطبق على كثير من المواقف المشابهة.
فكما أنّ الخطاب كان موجهاً لمن كانوا على عهد رسول الله ، هو أيضاً موجهاً إلينا، وإلى جميع المسلمين عبر الزمن. فماهي المعاني الرسالية الموجهة إلينا. وعندما نقرأ الآية، ما الذي يجب أن نستشعره، وما هي المسؤولية التي تقع على عاتقنا، وما الذي يجب أن نعمله أستجابة للآية والموعظة الإلهية.
معنى تجارةً أو لهواً.. هو الدنيا
إن المعنى الأشمل للتجارة واللهو هو الدنيا «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ». وكأن المسلمين عندما دعتهم الدنيا، توجهوا إليها وتركوا الرسول الأعظم قائماً. فالتجارة وكسب الأموال والتكاثر، أو اللهو والمتعة واللعب، هما عنوانان كبيران لكل أطماع ومتع الحياة الدنيا. وعندما حدثت محفزات الدنيا، ودعتهم إلى نفسها، في صورة تجارة وكسب، أو في صورة اللعب واللهو، خرج المسلمين من المسجد وتركوا الرسول الأعظم قائماً.
فالتجارة واللهو ترمز الى الحياة الدنيا. وبهذا يكون المعنى أكثر عمومية، بأن المسلمين عندما رأوا الدنيا، أو مؤثرات وإغراءات الدنيا، تركوا الرسول الأعظم قائماً.
معنى القيام.. إقامة الدين
إن المعنى الأدق والأعمق والأمثل لكلمة «قائماً» هو العمل على إقامة الدين، وما وقوف الرسول الأعظم وإلقاءه لخطبة الجمعة، إلا صورة من صور القيام على إقامة الدين. ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾ [الشورى: 13].
فالعمل على إقامة الدين هو جزء أساسي من الدين، وواجب شرعي، وهو من الأعمال الرسالية ليس فقط لأولي العزم، بل لكل المؤمنين، «شرع لكم من الدين.. أن أقيموا الدين». فالآية لا تعني فقط وقوف الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام أثناء الخطبة، بل تشمل قيامه وعمله الدؤوب على إقامة الدين.
فليس معنى القيام فقط الوقوف، بل يشمل العمل على إقامة الدين. فالقيام يأتي بمعنى العمل على إقامة الدين، وإصلاح الأرض. فيكون المعنى أن المسلمين تركوا الرسول الأعظم قائماً ومجاهداً ومجتهدا على إقامة الدين، وتوجهوا نحو مغريات الدنيا، وتركوا العمل معه، وتخلّوا عن مسؤولياتهم في إقامة الدين. ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30]. فالآية تأمر الرسول الأعظم
بأن يكون همه وجميع أعماله هي لإقامة الدين.
إقامة الصلاة.. إقامة الدين
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [النور: 56]
كثير من الآيات تتحدث عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والمعنى الأشمل ليس فقط إقامة الصلاة ودفع الزكاة، بل إقامة الدين وتطهير الأرض وتزكية الأرواح. فالقرآن أوجز في هذه الآيات إقامة الدين بإقامة الصلاة، وأوجز إصلاح الأرض، وتطهير وتزكية أرواح الناس بإيتاء الزكاة، وأوجز الولاية بإطاعة الرسول. وهذه الأبعاد الثلاثة تختزل معنى المتقين، وهم الذين يؤمنون بالولاية ويعملون على إقامة الدين وتزكية أنفسهم.
فإقامة الدين وإقامة الصلاة ليست فقط واجبة على الأنبياء والمرسلين، بل حتى المؤمنين، ولذلك عاتبتهم الآية بالخروج من المسجد، والإلتفات الى الدنيا، وترك العمل على إقامة الدين. ولعل هذه الخطيئة مشابهة لخطيئة آدم وحواء عندما التفتوا الى الدنيا، وأكلوا من شجرتها التي أخرجتهم من جنة القرب والأنس. إن المؤمنين حقيقةً هم الذين يعملون على إقامة الدين وإصلاح الأرض، وهم الأقرب لفهم الدين والقرآن ﴿الم، ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ فالذين يعملون على إقامة الدين وتزكية أنفسهم وإصلاح الأرض بعد الإيمان بالغيب والولاية هم المتقين الذين يستطيعون قراءة الكتاب والجانب النوراني من القرآن، وهو هدىً لهم.
استمرارية الآية مع بقية الأئمة
وبذلك الآية لا تنحصر فقط على عهد رسول الله، بل تشمل عهد جميع الأئمة، وتخلي المسلمين عن نصرتهم من أجل الدنيا. فتشمل خذلان الإمام علي وعدم نصرته أو حتى قتاله في بعض الأوقات، وخذلان الإمام الحسن
، وخذلان الإمام الحسين
.
ومثال على ذلك خروج مئات الآلاف من المسلمين إلى مكة للحج بحج الإمام الحسين ، ولكن عندما خرج الإمام
متوجهاً إلى كربلاء لإقامة الدين، لم يخرج معه إلا بضعاً وسبعين شخص. فانفض المسلمين إلى الدنيا، وتركوا الإمام الحسين
قائماً على إقامة الدين، شهيداً. وكذلك تشمل بقية الأئمة من نسله، وخذلان صاحب الزمان، الإمام القائم (عج). وما سمّي بالقائم إلا لعمله الدؤوب على إقامة الدين وإقامة الصلاة الكاملة.
الخروج من المسجد.. والتعلق بالدنيا
خروج المسلمين من المسجد للتجارة أو للهواً يعكس تعلّق قلوبهم بالدنيا، وحب الله وحب الدنيا لا يجتمعان في قلب واحد. وإنما يوفق الإنسان للعمل على إقامة الدين وخدمة الرسول أو الإمام بقدر إخراج حب الدنيا من قلبه، حتى لا يبقى في قلبه إلا الله. فكيف لمن تعمر الدنيا قلبه، أن يعمر الأرض بذكر الله. فما خرج مع الإمام الحسين إلا من طهر قلبه من أوثان وأصنام الدنيا وعبادتها. لأن الإمام الحسين
خرج للشهادة، فلا يطلب الشهادة من يطلب الدنيا.
فالخروج من المسجد ظاهرياً، يستبطن الخروج من المسجد قلبياً، والتوجه نحو القافلة وترك الرسول الأعظم، هو توجه نحو الدنيا والغفلة عن ذكر الله. فالجوانب الباطنية للخروج من المسجد ظاهرياً، هو الخروج من ساحة القدس وفي حضرة الرسول الخاتم وخليفة الله في الأرض دون استئذان، والإلتفات إلى شجرة الدنيا وزهرتها، وترك العمل على إقامة الدين في حال الخروج. وقد يخرج المؤمن من ساحة القدس. ولكن قد يتوب يعود. ولكن هناك من يخرج ولا يعود، فيصبح قلبه غافلاً عن ذكر الله وإقامة الصلاة، وهمه الدنيا وزبرجها، أعاذنا الله وإياكم من هذا البعد والغفلة والجفاء.
لا يكفي الدعاء بتعجيل الفرج
إن الداعي بلا عمل، كالرامي بلا وتر. فلا يكفي أن أدّعي أنني من أصحاب الإمام، أو أن أدعوا ظاهرياً لخروج الإمام، ولكن قلبي مليء بأصنام الدنيا، وأقدم القرابين لها ليل نهار. وإذا دعتني الدنيا، خرجت من مسجد العبادة متوجهاً ومسارعاً إليها، وتركت الإمام قائماً لوحده، وخلّفته وراء ظهري ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 101].
لا يكفي الدعاء بتعجيل الفرج، وإن كان جميلاً، لكي يصبح الإنسان من أنصار الإمام . فكثرة الرسائل التي بعث بها الكوفيين، والتي قيل أنها وصلت الى إثنى عشرة ألف، لم تجعلهم من أنصار الإمام الحسين
. بل على العكس، أصبحوا مذنبين في حق الإمام بين خاذلٍ له، أو مقاتلٍ عليه، إلا القليل ممن ثبت على الحق. وكذلك طلب أصحاب موسى للقاء الله، لم يجعل منهم أخياراً، بل أنزل عليهم العذاب.
لذلك على المؤمن أنّ يشعر بالخجل إذا كان يدعوا بتعجيل الفرج بلسانه، ويخالف ذلك قلبه وعمله «يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ «2» كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفۡعَلُونَ «3»]الصف[. فعندما أدعوا بتعجيل الفرج، علي أن أدعوا نفسي لإقامة الدين في قلبي قبل إقامته في الأرض. وإذا كان الإمام مطّلع على أعمالنا، فإنه يعلم أننا نطلب الدنيا بقلوبنا وأعمالنا، ونطلبه بألسنتنا فقط، فكيف يصلح أن نكون من أنصاره. ومهما عملنا من الأعمال الصالحة، فنحن مقصّرين في نصرة الإمام.
لذلك كان الإمام الحسين حريصاً على تمحيص أصحابه يوم العاشر، فما قام معه إلا المخلصون. فكيف لمن كان قلبه مليئاً بحب الدنيا، والذي قد تستهويه أطماع الدنيا من مال أو تجارة أو لهو أو جاه وتفاخر، كيف له أن يقوم للشهادة مع الإمام، إلا من كان قلبه مخلصاً لله.
تطهير القلب.. للقيام مع الإمام
فتطهير القلب من تعلّقات الدنيا، وإشراق نور الحق في قلب المؤمن، هو أولى خطوات القيام مع الإمام. إن توجه وتعلق القلب يحكم جميع أعمال الإنسان، إما بالقبول أو الرفض. فالقلب مرآة الأعمال. فمن كان قلبه مليء بحب الدنيا، فأعماله تصبح قرابين للدنيا وأصنامها. ومن كان قلبه عامراً بذكر الله، فإن صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين.
فبداية العمل لإقامة الدين، هو تطهير القلب، وإقامة الدين في القلب، وهذا ما عُبّر عنه بالورع عن محارم الله، في أحاديث أهل البيت. وإذا ما عمّر القلب بذكر الله، أصبحت جميع أفعال الإنسان مقبولة في ساحة القدس، ومن أعمال إقامة الدين، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ [الروم: 30]. فعندما يطهّر القلب من الأصنام، ومن أوساخ الغفلة عن الله، ويعمّر بأنوار المعرفة والذكر، عندها يستطيع الإنسان أن يعمل على إقامة الدين، وتصبح جميع أفعاله قرابين في ساحة العشق، ولا يأنس بغير ذكر المحبوب. ولكن إذا كان الإنسان مقيماً وجهه للدنيا واللعب واللهو، فكيف له أن يقيم الدين. فالعمل مرآة القلب.
وعندما يقيم الإنسان الصلاة في قلبه، يصبح قلبه عامراً بذكر الله، وبأنوار القرب ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14]. فلابد من تطهير القلب من الأغيار، وإقامة الصلاة في القلب، ليصبح مرآة لأنوار الأسماء والصفات.
إختلاف التكليف بين أصحاب الإمام
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 148]
من المعلوم أن أعمال القيام لأصحاب الحسين ، تختلف عن أصحاب الإمام الصادق
، بحسب دور الإمام، وبحسب اختلاف الظروف. فالإمام الصادق كان يعمل على نشر العلم، في حين كان الإمام الحسين
مجاهداً كعنوانان عامان. لذلك فواجبات القيام لأصحاب الإمام الصادق، تختلف عن واجبات القيام لأصحاب الإمام الحسين. وقس على ذلك بقية الأئمة.
ليس هذا فحسب، بل إن واجبات القيام وإقامة الدين ونصرة الإمام تختلف من شخص لآخر، حسب مقومات وظروف كلّ شخص. فدور زينب في نصرة الإمام الحسين
، كان مختلفاً تماماً عن دور العباس
. لذلك فإن على كلّ شخص القيام بواجبه الشرعي في نصرة الإمام، وإقامة الدين.
لذلك فأعمال القيام لأصحاب الإمام المهدي في زمن غيبته تختلف من شخص لآخر، بحسب إمكانيات وقدرات وظروف كلّ شخص. ولكن ليعمل الجميع على إقامة الدين وإقامة الصلاة الكاملة بشكل عام، وعلى تزكية وتطهير الأرواح. إن الفتح الحقيقي هو بهداية الناس «إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ «1» وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا «2»]النصر[.
حضور الإمام المهدي
في غيابه
قد يتسائل البعض ماهي فائدة الإمام المهدي عند الشيعة وهو غائب. وما قيمة الإيمان بالإمام في زمن الغيبة. وهل للإمام دور في غيابه، أم أنه محجوب عن العمل، ويعيش حياة برزخية. ولماذا لا يظهر حتى تتحقق الفائدة من وجوده. وكيف تتم الهداية في زمن الغيبة.
طبعاً في هذه النظرة قصور كبير، لأنها تختزل دور الأنبياء والأئمة في الجانب المادي، والانتصار الظاهري فقط. ولكن دور الأئمة والأنبياء هو هداية الناس وإصلاح الأرض. فكثير من الأنبياء والأئمة لم ينتصروا ظاهريا، كيحيى الذي قتل، أو موسى أوعيسى الذي رفع وكاد أن يقتل. فقليل هم الذين انتصروا ظاهرياً مثل سليمان
وأسسوا دولة. فهل حقق الأنبياء دورهم الرسالي، رغم أنهم لم ينتصروا ظاهريا. إذاً من الخطأ والقصور إختزال دور الأنبياء والأئمة بالدور الظاهري، فهم مواقيت وأبواب الرحمة والهداية.
الجانب الملكوتي للإمام
للمواقيت جانب مادي محسوس، وجانب نوراني ملكوتي. فحضورك وطوافك حول الكعبة، يجعلك عرضة للفيوضات النورانية، وإن كانت صامتة لا تنطق. ذلك لأنّ المولى جعل الكعبة من عوامل إقامة الدين وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وواسطة للفيض والرحمة والهداية ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ [المائدة: 97]. ورغم أن الكعبة ظاهريا صامتة، فهل هذا يعني أن لا دور لها ولا قيمة. بل على العكس، ففكعبة قيمة محورية في هداية الناس، وأسباب نزول الرحمة والنور والهداية على أرواحهم.
وكذلك فإن المولى كما جعل الكعبة، جعل الإمام هادياً ورحمةً وقياماً للناس ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 73]. فإذا كان للكعبة، وهي من حجارة، هذا التأثير العظيم في الهداية والرحمة والمغفره، وهي من أبواب الفيض والنور، فكذلك الأنبياء والأئمة هم مواقيت للفيض والرحمة والهداية والنور.
وذلك لأن المواقيت مرتبطة بعالم الملكوت، فإنه لا يحدّها بعد زماني أو مكاني. فعندما تكون بعيد عن الكعبة مكانياً، فعليك التوجه إليها في صلاتتك، وهناك يحدث القرب الملكوتي الروحي، ويتمّ الفيض النوراني بحسب القابليات. ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: 144].
وكذلك من خصوصيات صاحب الزمان، ليس فقط عرض أعمال المؤمنين عليه، بل تنزل الملائكة والروح عليه في ليلة القدر، بكل أقدار السنة وحوادثها. فهو خليفة الله في الأرض، والمقام لا يسمح بالتفصيل في هذا المجال.
الجانب الملكوتي للرسول الأعظم 
من القصور ومن الخطأ أن نظن أن الرسول الأعظم قد انتهي دوره بوفاته، وأنه لا دور له ولا تأثير في عالم الوجود وعلى البشرية. فآيات القرآن توضح أن الشهداء المؤمنين أحياء في عالم البرزخ، ويرزقون من أنوار وفيوضات أعمالهم في الحياة الدنيا. وإذا كان هذا حال المؤمنين، فما بال الأنبياء والرسل، وما بال سيد البشرية الرسول الأعظم، فلا شك أنه وبالدرجة الأولى حيٌّ يرزق.
الرسول يستغفر ويشفع للمؤمنين
ليس هذا فحسب، بل إن الرسول الأعظم في عالم البرزخ يستغفر للمؤمنين في غفران ذنوبهم، ويشفع لهم في حط وزرهم في عالم الدنيا لكي يستأنفوا العمل ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: 28]. ولولا استغفار الرسول الأعظم لنا، ومغفرة الله في الحياة الدنيا، لما خرجنا من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 64].
وهذا يدل على حياة الجانب الملكوتي للرسول الأعظم والأئمة، حتى لو انقطعوا عن الجانب المادي. ومن أدوار الرسول الأعظم في عالم الملكوت أنه يصلي على المؤمنين لتنزل عليهم الرحمة والهداية والسكينة. ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [التوبة: 103]. فهذه الآيات كاستغفار الرسول، وشفاعته، وصلاته على المؤمنين لا تنقطع بموته، وليست خاصة للمؤمنين في زمانه، بل هي مستمرة حتى بعد وفاته، وتعم جميع المؤمنين في جميع الأزمنة والأماكن.
الرسول.. المعلم الأوّل للحكمة والكتاب
بالإظافة لاستغفار الرسول الأعظم للمؤمنين لكي يرفع رين الذنوب عن قلوبهم، فهو أيضاً يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: 164]. أي بمعنى آخر، فإن المعلم الأول والحقيقي للعلوم الربانية وما يسمى بالعلم الحضوري هو الرسول الأعظم. فالرسول الأعظم هو واسطة الفيض، ومرآة تجلّي الأسماء والصفات وإشراق نور الحق في قلب المؤمن. ولا يمكن معرفة الله والإيمان به إلا بمعرفة الرسول الدال على الله. والرسول الأعظم هو المعلّم للكتاب، وللجانب الملكوتي للقرآن. فلا يمكن أن يتعلّم الإنسان من الكتاب إلا بواسطة الرسول الأعظم.
وكذلك فإن جميع أعمال الخلائق وحوادث الدنيا تعرض على الرسول الأعظم والأئمة من نسله ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: 105]. فالرسول الأعظم واسطة الفيض والنور لكل الأعمال الصالحة. فشفاعة الرسول واستغفاره من عوامل تكامل الإيمان للمؤمنين.
وما نستنتجه من الآيات هو أن الرسول الأعظم لا يزال حياً في عالم الملكوت، وهو مجتهد في العمل، يشفع للمؤمنين ويستغفر لهم، ويصلي عليهم، ويتابع أعمالهم، ويزكيهم ويرشدهم، ويعلّمهم الكتاب والحكمة. وجميع هذه الأعمال هي من عالم الملكوت، ومرتبطة بأرواح المؤمنين، ليست عن طريق المادة أو العلم الحصولي، فاطفئ السراج فقد طلع الصباح. وهذا الحال منطبق على جميع أئمة أهل البيت، وكذلك الأنبياء والصالحين والشهداء. فالإمام يستغفر للمؤمنين، ويعلمهم ويزكيهم.