الطقوس كأفيون
قد تُذكر أسباب عديدة في تفسير ظهور الطقوسية كظاهرة اجتماعية، الطقوسية التي تعني التدين الشكلي الأجوف، كالصلاة بلا خشوع، اللطم بلا حزن، بل العَبرة بلا عِبرة، حب الصالحين دون التأسّي بهم، وغيرها الكثير من ظواهر مجتمعاتنا العربية «1»، وقد تكون كثير منها - أي تلك الأسباب التي تُذكر - عواملُ واقعية تساهم في تشكيل هذه الظاهرة، إلا أن هنالك عاملًا أظنه أعمق وأكثر تأثيرًا من غيره، أطلقُ عليه: الفراغ الإنجازي.
لا نحتاج إلى إثبات فشل مجتمعنا علميًا، وسياسيًا، واقتصاديًا، واجتماعيًا، بل وحتى أخلاقيًا «2»، وإن للمجتمعات - كما لدى أفرادها - طموح في تحقيق ذاتها والشعور بالإنجاز والتفوق، وحيث الفشل في جميع الجوانب القيّمة، وحيث الكسل وحب الراحة، وحيث التراث المليء بما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين؛ تبعث الأَنَفَة نفوس أصحابها على إيجاد «ترقيع» لهذه الشُّق، فتُتَّخذُ الطقوسية مذهبًا.
وحيث غالبًا ما يكونُ جوهر التدين متشابهًا بين الأديان والمذاهب بينما يكون الشكل والمظهر مختلفًا؛ تظهر هذه الطقوسية في مظهرين، الأول هو رفع قيمة الشؤون الخاصة، والثاني هو تعليق قيمة القِيَم العامة على الشؤون الخاصة، ففي المجتمع الشيعي القطيفي مثلًا؛ نراهم يرون بأن ولايتهم لعلي ابن أبي طالب تكفيهم في الفوز «الإنجاز» الحقيقي في الآخرة «3»، ونرى أيضًا أنهم يعلّقون قيمةَ الأفعالِ الأخلاقية والإنسانية على ولاية وحب علي ابن أبي طالب «4»، وما ولاية علي ابن أبي طالب هنا إلا مجرد مثال، وإلا ففي الطقوسية الحسينية وغيرها أمثلةٌ طافحة.
هكذا «يُرَقَّعُ» الشُّق، هكذا حيث يشعر الطقوسيون بتفوقهم هم ومن هو داخل دائرتهم الخاصة على من هم خارجَها، هكذا حيث لا يشعر الناس بتخلّفهم، هكذا حيث «تُرشى» ضمائر الناس وتُمتطى عقولهم، هكذا حيث يصبح الدينُ أفيونًا للشعوب، والله المستعان.
«1» وسأركز هنا على المجتمع الشيعي القطيفي.
«2» فلا أظن أن هنالك واعيًا لا زال يتوهم أسطورة «مجتمعنا المحافظ» مع رواج التهتك والفسق والوقاحة وغيرها من الرذائل التي لا يحصي عددها ومداها إلا هو - سبحانه -.
«3» من أشهر الأبيات، والتي يحفظها الكبير والصغير في المجتمع الشيعي القطيفي أبيات الشيخ حسين النجفي القائلة:
ولايتي لأمير النحل تكفيني، عند الممات وتغسيلي وتكفيني
وطينتي عُجِنت من قبل تكويني، بحب حيدرةٍ كيف النار تكويني.
«4» ومن القصائد المشهورة نوعًا ما، القصيدة المنسوبة لنصير الدين الطوسي والتي تقول:
لو أنّ عبدا أتى بالصالحات غداً، وودّ كلّ نبي مرسل وولي
وصام ما صام صوّامًا بلا ضجر، وقام ما قام قوّامًا بلا مللِ
وحجّ ما حجّ من فرض ومن سنن، وطاف ما طاف حاف غير منعلِ
وطار في الجو لا يأوي إلى أحد، وغاص في البحر مأموناً من البللِ
يكسو اليتامى من الديباج كلّهم، ويطعم الجائعين البر بالعسلِ
وعاش في الناس آلافاً مؤلّفةً، عار من الذنب معصوماً من الزللِ
ما كان في الحشر عند الله منتفعاً، إلاّ بحبّ أمير المؤمنين علي