الحرية.. بين مُراءٍ ومُكذِّب
قبل خمسة عشر سنة تقريبًا، شاركت بحضور ندوة ثقافية بعنوان: ”الحرية في فكر الإمام الشيرازي“، الذي وافته المنيةُ في مدينة قم المقدسة عام 2001 ميلادي، وهو يعد من مراجع الشيعية الكبار والمعروفين للطائفة الشيعية الاثني عشرية، وكان مفكرًا متميزًا وكاتبًا قَلَّ نظيرُه في العصر الحديث، إذ بلغت كتاباته ومؤلفاته رقمًا صعب الوصول إليه في عالم التأليف، تجاوزت الألف كتاب في شتى أنواع الفكر، وقد حاز على ألقاب عديدة: الإمام والمجدد وسلطان المؤلفين، وكانت عبقريته فريدة من نوعها، وبدأتْ حاليًّا مجموعة من الجامعات تدرس وتبحث في إنتاجه الفكري الغزير والمتنوع، كجامعة دمشق وجامعة بغداد، وقد أظهرت بعض إنتاجاته الفكرية على المسرح الأكاديمي في مستوى الدراسات العليا لبعض الباحثين، بمرتبة الدكتوراة، فضلًا عن بعض الباحثين من هنا وهناك.
كان برنامج الندوة موزعًا بين ورقتين لمحاضريَن: ورقة لشخصية دينية وهي شخصية ذات ثقافة واسعة وتجمع بين العلوم الدينية والتخصص الأكاديمي وحاصلة على شهادة البكالوريوس في إحدى اللغات الأجنبية، والورقة الأخرى لشخصية أكاديمية ذات تحصيل علمي أكاديمي عالٍ في الدراسات العليا، حاصل على شهادة الدكتوراة، كل منهما قدَّم ورقته البحثية، وتناولا فيهما مفهوم الحرية وفق فكر الإمام الشيرازي الراحل رحمه الله.
في الحقيقة وُفِّقَ الاثنان في تقديم مفهوم الحرية وفق فكر الإمام الشيرازي الراحل، خرجت الشخصية الدينية بنتيجة مدعمة بالأدلة العقلية المرتبطة بالنصوص الشرعية التي تؤكد على الإيمان بالحرية ايمانًا عقديًّا وسلوكيًّا وفق الضوابط الشرعية، والورقة الأخرى التي قدمتها الشخصية الأكاديمية خرجت بنتيجة بأن الحرية ذات مفهوم ثقافي أصيل، وينبغي العمل بها وفق أنظمة وقوانين البلد، مع ضمان فرض قانون احترام الرأي والرأي الآخر، إذ على جميع الأطراف احترام وجهات النظر المختلفة، ذلك أن الحرية لا حدود لها.
بعد عام ونصف تقريبًا من هذه الندوة التقيت بالشخصية الأكاديمية التي تحمل حرف ”الدال“ في أحد المرافق الثقافية، وكانت له مشاركة في تلك الندوة، وكان يتحدث وينظر إلى حدث كان هو الأبرز في تلك المرحلة الزمنية، وتمدد ذلك التنظير وأخذ يرسم ملامح رأيه الشخصي، حتى تبلورت إلى فكرة يتبناها المحاضر نفسه، وبالرغم من أنه برع في طرحه لمفهوم الحرية وحاجة كل فرد في المجتمع إليها، بل قال في ختام كلامه: بدون الحرية لا ينمو شيء، حسب اعتقاده الثقافي، وكان استنتاجه شبيهًا لما دار في تلك الندوة المذكورة آنفًا.
بعد انتهاء المحاضر من تقديم وجهة نظره ورأيه حول ما دار في جوف هذه الجلسة الحوارية فُتح باب النقاش، وطلبت الإذن بكل احترام لإبداء وجهة نظري حول ما دار وطرحه على أسماعنا المحاضر المحترم، فأبديت اعتراضي على ما تفضل به الأستاذ وفق ما أنا أراه ومقتنع، وقبل أن أتم وجهة نظري، فجأة تغيرت ملامح وجه المحاضر ولاحظت عليه نوعًا من التنمر في نظراته، واهتزازًا واضحًا في شفاهه وتغيرًا ظاهرًا في علاماته الحيوية، حتى خُيِّلَ لي أنه مريض أو أنه تحامل على نفسه بالمجيء، علمًا هذه العلامات الحيوية لم تظهر عليه أثناء حديثه قبل فتح باب النقاش، بل كانت ضحكاته تملأ أرجاء المكان. بعدها انطلق للسانه المعقود بأسلوب غاضب معترضًا على الرأي المخالف لرأيه، وما يحمله هو من وجهة نظره حول الموضوع، ولم يكتفِ بذلك، بل بيَّن اعتراضه على أنه رأي مشخص، مع أنه كان بعيدًا عن الشخصنة، وكأن ما كان يدعو له عن مفهوم الحرية تبخر في لحظتها وأصبح هرطقة للسان. عندها أبان لي أن ما استنتجه من مفهوم عن الحرية في تلك الندوة ليس مؤمنًا به، بل هو قناع ثقافي، وأن الحرية في مفهومه أن لا تتجاوز آراءه، بل ليس مهمًا عنده ما هو رأي الآخر مقابل رأيه الشخصي المقدس.
مضت عدة سنوات حتى أجد الشخصية الثانية الدينية المعممة وهي تقوم بنقد رأي مخالف لرأيها ولتوجهها الشخصي، ولا أستطيع أوصف ذلك النقد إلا أنه نقد هابط، بل يصل إلى النقد الصبياني، وذكَّرني عندما كنا مع قرنائنا في العمر وهم مجموعة من أصدقاء الطفولة، عندما كنا نلعب في أزقة حي الديرة التاروتي الأثري، عندما كنا نختلف مع بعضنا تكون ردة فعلنا أن نهاجم المختلف معنا بطريقة صبيانية غير محسوب لها أي حساب، المهم نهجم وبس لتحطيم رأي ذلك الشجاع التي تجرأ على انتقادنا، وكذلك يفعل بنا عندما كنا نتجرأ بإبداء رأينا ضد صبية آخرين، وكنا نأخذ نصيبنا منهم، وهذه هي ثقافة الطفولة، هكذا حسبته وتصور لي وكأنه قد علَّق المشنقة على مفهوم الحرية التي قدَّمها بكل براعة، وهو أيضًا كان يتخذها قناعًا ثقافيًّا واجتماعيَّا، وربما قناعًا دينيًّا، وكلها ظهرت مجرد هرطقة لسان، وإذا بمفهوم الحرية لدى الشخصيتين: الدينية والأكاديمية ينتفي من المسرح العقدي والثقافي وكأنك يا زيد ما غزيت!
شكل آخر يقدم أنموذجًا فاشلًا عن مفهوم الحرية وحرية حق التعبير، حين كنت في زيارة لإحدى الديوانيات الثقافية، وإذا بي ألتقي بشخصية ثقافية محترمة، وكانت تلك الديوانية مكتظة بمجموعة من المثقفين والمتدينين، وبعضهم من المهتمين بالشأن الاجتماعي والثقافي، وإذا بهذه الشخصية متصدرة المجلس بطرح ومناقشة آراء شخصية ذات رمزية فكرية ودينية وثقافية واجتماعية، وكان جميع ما في الديوانية يتمتعون بروح ثقافة الاستماع والإنصات من دون مقاطعة المتكلم حتى نهاية آخر حرف نطق به، وبعدما أفرغ ما في جعبته أمام الحاضرين، كانت ابتسامته لا تفارق محياه، فضلًا عن نظراته الجميلة الموزعة على أغلب الحاضرين، وكنت واحدًا من نال من هذه الورود، وإذا بأحد الحاضرين التفت إليه وهو مبتسم مقدمًا شكره له، وطلب الإذن بالمشاركة لطرح رأيه، ومن ثَمَّ وَجَّهَ نظره للمتحدث قائلًا: المعذرة يا صديقي إن ما تفضلت به مع احترامي ومحبتي لقائلها ولعارض الفكرة إلا أني أختلف معك في هذا الرأي الذي عرضته علينا مشكورًا، وإذا بتلك الشخصية معتدلة له بنبرة ساخرة قائلة: تفضل يا أستاذ أعطِنا وجه نظرك غير المتوافقة مع وجه نظرة أستاذنا!
رد المشارك عليه بكل احترام دون التعليق على طريقته وأسلوبه «وهي طريقة ساخرة تقلل من شأن المتكلم»، وحتى لا يتحول الحوار إلى نوع من المهاترات لا قيمة لها استطاع المشارك ضبط أعصابه وتماسك لترتيب أفكاره.
عندها طرح رأيه بكل ثقة وقدَّم وجهة نظره المخالفة لذلك الرأي المتغطرس وكانت وجهة نظره تحمل مضمونًا رائعًا أعجب به بعض الحاضرين، وإذا بتلك الشخصية المحاضرة تقطع حديث المشارك من دون إذن بالمداخلة مع ما كان يتمتع به المجلس من هدوء وصفاء فكري، فقدم اعتراضًا على رأي المشارك بطريقة «الديناميت». فجأة تحولت تلك الشخصية الممتلئة بالابتسامات والنظرات الفراشية إلى شخص يكاد يكون إنسانًا مفترسًا، ويُخيَّل إلي أنه هبط عليه نوع من الهستيريا النفسية لدرجة أربك الحاضرين، بل أخاف الحاضرين بسبب طريقة صراخه العجيبة واضعًا علامات الاستغراب والاستفهام على جبين الجميع قائلًا للمشارك: من أنت حتى تعترض على كلام الأستاذ؟ وماذا تمثل أنت ورأيك أمام أطروحات الأستاذ؟ وكأن قول الأستاذ بالنسبة له وحي يوحى لا يرد عليه!
يذكر أن هذه الشخصية نفسها قبل بضع ليالٍ، قريبة من هذا الحدث وفي المكان ذاته «أو مكان آخر» كان يسهب في طرحه لمفهوم الحرية وحرية التعبير وأنها حق للجميع مهما كانت فجوة التباين بين الآراء، وأكد على أهمية إنعاش الأجواء الثقافية بالحرية، وكان يؤكد على قوله: ما تحيي أي رأي أو فكرة وتنعشهما إلا عبر الحوار الحر والمنفتح.
تبين أن صاحبنا يرتدي قناعًا ثقافيًّا واجتماعيًّا مزيفًا، يتجمل به أينما يرتحل، وأن قناعته عن مفهوم الحرية ما هي إلا هرطقة للسان!
نموذج آخر يقدم مفهوم الحرية على الواقع الافتراضي من حسابه الخاص. كنت متابعًا لشخصية ثقافية على الواقع الافتراضي تفاجئنا بين ألفينة والأخرى بمنشور جميل عن مفاهيم الحرية وحرية التعبير، وكان كل منشور يكتبه يحمل عنوانًا مختلفًا وجميلًا يتضمن فيه مفهوم الحرية يحصد به مجموعة من الإعجاب واللايكات والتصفيق، إذ إن كل منشور له يحمل أنموذجًا أو قصة محبكة لغويًّا ومشبعة فكريًّا بمفاهيم الحرية، وهذه المعلبات الفكرية الراقية تنبعث بشيء من الحس الفكري الراقي.
راسلني أحد الأصدقاء ذات مرة ودار بيننا حديث حول هذه الشخصية الافتراضية بما تقدمه وتطرحه من فكر راقٍ حول مفهوم الحرية بجميع أشكالها وألوانها، وقد أبديت له إعجابي بهذه الشخصية وبما تطرحه وتقدمه على حسابها الافتراضي، وإذا بهذا الصديق يقول لي: لا تتعجل في رأيك نحو ما تطرحه تلك الشخصية؛ فهو قناع لا أكثر، وقد سبق ودار بيني وبينه حوارات متنوعة حتى قبل كتابة آخر منشور له بساعات، وكان متزمتًا لرأيه مستهزئًا بالآراء المخالفة له وإلى نهجه الثقافي، إلى درجة قد تصل فيها أنك لا تصدق ما يكتبه وما تسمعه منه، بمعنى يا صديقي كلها هرطقة للسان.
يتبين أن صاحبنا مصاب بالازدواجية الشخصية: شخصية على الواقع الافتراضية، وشخصية أخرى على الواقع الحقيقي، فهو لديه قناعان اجتماعيان يتعامل بهما مع الناس، وبحسب ما تقتضي الحاجة يتبدل ذلك القناع لذلك الغرض!
وما زال صديقنا يسترسل في الحديث عنه.. قد أبلغته مرة بأن ما تقوم به نفاق اجتماعي لا يليق بك، فرد عليه ساخرًا: هذا يسمى مدارات، فأسرعت بالرد عليه: هذا قناع عنونته بالمدارات، وإلا هو واضح، وأنت تعلم أنه نوع من النفاق الاجتماعي.
وهناك في الواقع الخارجي نماذج كثيرة أختزلها في ذاكرتي ويختزلها غيري، عمن فشلوا في تقديم مفهوم الحرية على أرض الواقع، ولعلي أكون واحدًا من هؤلاء الناس ”وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ“.
إننا نفهم أن الحرية ليس التهكم والهجوم على ذات القائل أو صانع الرأي أو الفكرة، وإنما هذا نوع من الوقاحة، ولا يطلق عليها حرية تعبير، ذلك أن مفهوم الحرية في النقد والمناقشة للفكرة أو الرأي من دون شخصتنها، عندما تضع على طاولة التشريح وينبغي ترك للآخر مساحة حرية القبول أو الرفض ”لَسْتَ عَلِيهِم بِمسِيطِرٍ“.
وحتى ما يسمى بالملكية الفكرية، والقصد عدم سرقة جهد الآخر، إلا أنها تظل فكرة يحق لكل فرد بحثها ودراستها وحوارها وقبولها ولفظها، مع بقاء احترامها واحترام منتجها وصانعها.