خادم الحسين يودّع منبر الحسين.. الخطيب البارز ملا حسين الباقر
كان يوم الثامن من ذي القعدة بمثابة السحابة السوداء التي غطّت المنطقة بأكملها، كما أنه اليوم الذي ذُرفت فيه الدموع: الصغار قبل الكبار، والمرضى قبل الأصحاء، والبعيدون قبل القريبين؛ من الحزن والألم، حينما أُعلن نبأ رحيل حبيب القلوب، الخطيب الحسيني الفذ، العريق، الأصيل، البارز، ملا حسين الباقر، رحمه الله تعالى، إلى جوار ربه، راضيًا مرضيًا بإذن الله تعالى. لا يداخلنا الشك - ولو ذرة واحدة - أنك الآن في ضيافة إمامك الحسين، ومع أسيادك الأطهار، ؛ لأنهم كانوا ساكني قلبك العطوف، المفعم بالإيمان والحب والولاء حتى النخاع. كيف لا، وأنت الذي أجريت دموع المؤمنين والمؤمنات على حبيب الزهراء
لأكثر من سبعين عامًا؟ صرخاتك الحسينية ستظل تُدوّي في أسماعنا ما حيينا وبقيت الحياة.
تشرفتُ بمعرفة سماحة الخطيب المرحوم ملا حسين الباقر، رحمه الله، في حملة الهاشم للحج والعمرة، ومقرها مدينة سيهات، قبل أكثر من عشرين عامًا ونيّف، وذلك في موسم الحج المبارك. وبطبيعة الحال، تضم الحملة مجموعة من مكونات المجتمع المختلفة في التوجهات الدينية والفكرية والثقافية والاقتصادية. وقد يكون هذا واحدًا من أسرار ومعالم فريضة الحج، وهو: فهم تكوين المجتمع، وتقبله للمختلف، والتعايش معه؛ بل هي سُنّة تكوينية من السنن الإلهية، عبر بوابة التعارف التي أشار إليها القرآن الكريم في سورة الحجرات، حين قال ربنا سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾، أي: التعارف مع مختلف الطبقات الاجتماعية، ليخرج المسلم من هذه الفريضة المقدسة، وهو يحمل شعلة روحية من المودة، والمحبة، والأخوّة مع كل أطياف المجتمع؛ لكي تتحقق حالة السلام بينهم.
عند أول لقاء بسماحة الخطيب الحسيني ملا حسين الباقر، رحمه الله، كان في سكن الحملة عندما استقبلنا بنفسه، وكان استقبالًا جميلاً ورائعًا. عندها، شدتني فيه سِمَة التواضع الجمّ الذي يتمتع به، مع محياه الذي ترتسم عليه ابتسامته الأبوية، ونور وجهه المنير بأنوار أهل البيت .
بعد ذلك، تعلّق قلبي به، ودخله من أوسع أبوابه دون استئذان، حتى انتابني شك في نفسي: من أنا، حتى يفعل رجل الدين الكهل الوقور هذا الصنيع الجميل من حُسن الاستقبال وكرم الضيافة، وخدمته إيانا بنفسه؟! وأنا لا تربطني به أي علاقة نسبية، ولا معرفة سابقة، ولا موقف خدمته فيه، وعلى أساسه يرد الجميل. كل هذا لم يحصل.
وما لك إلا أن تفسّر هذا بما يمتلكه من الأخلاق الإنسانية الرائعة، والأخلاق المحمدية التي تربّى عليها سماحة الملا أبو علي منذ نعومة أظفاره، وطبّقها على أرض الواقع بأحسن صورها الاجتماعية والإنسانية.
مشهدٌ آخر من روح التواضع، شاهدته من سماحة الخطيب الحسيني أبي علي، رحمه الله، عندما دخل علينا أحد رجال الدين، الذي بدا - ظاهرًا - أنه في عمر المُلا أبي علي، أو أكبر منه بقليل، وإذا به ينهض مسرعًا احترامًا لمقدم هذا الرجل الوقور، وقام بتقبيل رأسه ويده، وأجلسه مكانه، وجلس منه جلسة الابن عند أبيه، وبانت عليه حالة من الحياء.
فتعجبت من هذا التصرف النبيل والرائع، وسألت أحد كوادر الحملة: من هذا الرجل؟ فقال لي: إنه أخوه الأكبر، سماحة الملا حسن الباقر“رحمه الله”.
فكان مشهدًا من الاحترام، والتقدير، والتواضع الجم، قلّما نشهده في الأوساط الدينية، فضلًا عمن هم خارج هذه البيئة المحترمة.
كما يُعد سماحة الملا حسن الباقر «أبو محمد»، رحمه الله، من أبرز خطباء المنطقة، وله صولات وجولات في الخطابة الحسينية، وهو شخصية علمائية معروفة في الوسطين الديني والاجتماعي، وأستاذ أخيه الملا حسين، بعد والدهما الملا محمد الباقر، رحمهما الله.
وكان يُلقّب ب”المرشد”، باعتباره واحدًا من المرشدين البارزين في حملات الحج، يتمتع بعلم وخبرة واسعة في المسائل الشرعية المرتبطة بمناسك الحج وغيرها، وله كذلك أدوار اجتماعية وإنسانية بارزة ومختلفة، خاصة في بلدته حلة محيش، إحدى قرى محافظة القطيف.
وأذكر موقفًا آخر لسماحة الملا حسين الباقر، رحمه الله، يعبر عن الشيمة، والحس بالمسؤولية الدينية، التي حملها على عاتقه، وتعهد بها أمام الله ورسوله، وأمام صاحب الحملة، وأمام حجاج بيت الله الحرام، وضيوف الرحمن.
فعندما دخل مبنى سكن الحملة مع مجموعة من الحجاج والكوادر قادمين من الحرم المكي الشريف، بعد انتهاء مناسك الطواف، والكل في حالة تعب وإرهاق وجوع، وعلى رأسهم الملا أبو علي - وهو أكبرهم سنًّا -، إذ بمجموعة من النساء، لم يُكملن الطواف، تتقدمهن امرأة في العقد الخامس أو أكبر بقليل، وإذا بها تفاجئ الجميع، وبينهم سماحة الملا حسين، بسؤالها:“من يُطوّفنا؟ نحن جاهزون. ”
سكت الجميع سكوتًا أخجل الكوادر، وكأن على رؤوسهم الطير، فالطلب في الحقيقة صعب جدًّا، ويعرفه كل من مرّ بتجربة الحج.
وإذا بالملا أبي علي، والتعب يمزق جسده، يقول لهن:“أنا سوف أُطوّفكن، ولكن انتظرنني ساعة أستعيد فيها أنفاسي، ثم ننطلق مباشرة”.
ففرحن جميعًا، وشكرنه. وبالفعل، ذهب معهن، ولم يرجع بهن مقر الحملة إلا عند بزوغ فجر اليوم التالي!
تصوّروا معي المشهد: كيف كان وضع الملا حسين جسديًا؟ لم يكن يقوى على الوقوف من شدة الإرهاق الذي واجهه في ذلك اليوم.
موقف آخر أدهشني كذلك، أثناء حواراتنا شبه اليومية معه في سكن الحملة، والتي كنا نستمتع بها مع سماحة الملا أبي علي، رحمه الله، حينما اكتشفت مدى تمتّعه بثقافة عصرية واسعة، واطلاعه على ما يحدث في الأوساط الدينية والاجتماعية والثقافية، وقدرته التحليلية الواقعية الرائعة والمقنعة، التي كانت تلامس الواقع حقًّا.
رغم أن سماحة الملا حسين الباقر يُعد من الخطباء المحسوبين على طبقة“الخطباء الكلاسيكيين”، كما يُعبّر عنهم علماء الاجتماع، وذلك ربما لشخصيته المتزنة، وتمسكه بروح الماضي، والقيم والمبادئ الدينية، والعادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية الرائعة، التي قد يفتقر إليها البعض، بل يخجل منها أو يهرب، ظنًا منه أنها تجعله يعيش في عالم منقطع عن الحاضر.
في الواقع، هناك مشاهد ومواقف كثيرة جميلة جمعتنا بالمرحوم سماحة الملا أبي علي، منها ما خلدته الذاكرة، وقد لا يسعنا ذكره في هذه العجالة، وبعضها قد لا تسعفنا الذاكرة لاستعادته؛ بسبب الفترة الزمنية الطويلة التي انقطعت بيننا وبين سماحة الملا حسين.
وأذكر، في ختام هذا المقال المتواضع، الذي لا يفي أبدًا بحق الوالد والمربّي والخطيب الحسيني، سماحة الملا أبي علي، زيارتنا الأولى له في منزله بحلة محيش، بعد رجوعنا إلى مدينتنا الحبيبة، القطيف، فوجدنا فيه روح الاستقبال نفسها التي لمسناها منه في حملة الهاشم، بل زادت عليها.
أخجلنا بتلك الروح الأبوية والإنسانية، التي قلما نجد لها نظيرًا في وقتنا الحاضر، حين استقبلنا بنفسه من أمام باب منزله، برفقة ابن أخيه سماحة الشيخ محمد حسن الباقر، حفظه الله، وأدخلنا المجلس، وقد أغرقنا بكلماته الجميلة والرنانة، التي أحرجتنا كونها صادرة عن رجل بهذه القامة الدينية والاجتماعية العالية.
بعد أن أخذنا بالأحضان، قام بضيافتنا بنفسه، وكان نعم المضياف، وتكرر هذا الصنيع الجميل في زياراتنا اللاحقة له.
عند تشييع الجثمان الطاهر، لم أكن مستغربًا من الحشود الكبيرة من المشيعين القادمين من الداخل والخارج، الذين نالوا شرف الحضور لتشييعك، يا أبا علي، وأنت تستحق ذلك وأكثر؛ لأنك اخترت أن تلتصق بالحسين ، ومن يلتصق بالحسين، يكافئه الله بأن يخلّده في الدنيا، ويحسن ذكره بين الناس، بل ويعلو قدره ودرجته في الجنان الخالدة مع العترة الطاهرة
.
والسبب الثاني: لأنك تنتمي للطبقة الدينية التي خدمت المجتمع بكل وفاء وإخلاص طيلة حياتها.
لكن ما أثار دهشتي وزادني ألمًا هو بكاء الصبية، ونحيب الشباب، وكأنهم فقدوا أباهم فعلًا.
وأنت بالفعل كنت لهم أبًا رؤوفًا، وحنونًا، ومعلّمًا.
ودّعنا جسدك الطاهر إلى مثواه الأخير، ولكن بقيت معنا روحك الطيبة الحسينية، ترفرف حولنا، صارخة كل صباح ومساء:“يا حسين”.
رحمك الله برحمته الواسعة، أيها الشيخ الكبير، والخطيب الحسيني، والموالي الوفي، وخادم العترة الطاهرة، ومعلّم الصغار والكبار، يا ملا أبا علي.
ورحم الله من قرأ لروحه الطاهرة سورة الفاتحة المباركة.