أترك أثرا ً قبل الغياب والرحيل «9»

المحور الثالث: السجايا الخُلقية للمرء:

عاشرا ً: فضيلة الصمت:

من الأقوال المضحكة لسقراط عن زوجتة «زانتيب» المشتهرة بلسانها السليط وبجمالها ”أنا مدين لهذة المرأة لولاها ما تعلمت أن الحكمة في الصمت والسعادة في النوم“، ومن المواقف الطريفة التي يحكيها لنا التاريخ عن سقراط هو أن سُقراط كان جالس مع طلابه في المنزل يقوم بتعليمهم، ولكن سقراط لم يسلم من لسان زوجتة وكانت تقوم بإلقاء الكلمات وتسبه كما هو معتاد، وبعد ذلك قامت بسكب الماء فوقه وهو بين طلابه فمسح الماء من على وجهه وقال ”كان يجب أن نتوقع أنها ستمطر بعد كل هذه الرعود ”.

أما الشئ الغريب هو طريقة موت زوجة سقراط، فكعادتها في يوم من الأيام قامت بإشعال خلاف بينها وبين زوجها، ولكن سقراط كان هادئ جداً ولا يُجيب عليها وإلتزم الصمت والسكوت وراحة البال، أما هي فكانت كالبركان، مما أدي إلي إصابتها بألم شديد في القلب أدى إلى موتها في نفس الليلة، فكان هدوء سقراط وإبتعاده عن المشاكل مع زوجتة هو السبب في وفاتها.

لا شكّ أن الكلام وسيلة التواصل من الدرجة الأولى بين بني البشر على مر الأزمنة، ولا شكّ أنَّ الكثير من الآفات الأخلاقيّة والرذائل النفسيّة، إنَّما تكون بفعل لغو الكلام وزلات اللّسان، وإن قلة الكلام «الصمت» النافع والإيجابي من الصفات والأخلاق الحميدة، وهي تدل على أدب الشخص، ورزانة عقلة، لذا نجد أن الشريعة المقدسة حثت وشجعت على التحلي بفضيلة الصمت الإيجايي وقلة الكلام، وأن لا يكون قلة الكلام والصمت النافع والإيجابي إلا في رضى اللَّه تعالى، وهذا ما ورد عن الإمام السجاد عندما سئل عن الكلام والسكوت أيهما أفضل؟ فقال : «لكل واحد آفات؛ فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت، قيل: وكيف ذاك يا ابن رسول اللَّه ؟ قال: لأن اللَّه عز وجل، ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما بعثهم بالكلام، ولا إستحقت الجنة بالسكوت ولا استوجبت ولاية اللَّه بالسكوت ولا توقيت النار بالسكوت ولا يجنب سخط اللَّه بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام ما كنت لأعدل القمر بالشمس أنك تصف فضل السكوت بالكلام ولست تصف فضل الكلام بالسكوت» «1».

إن السكوت هو الطريق الأفضل لرقيّ الإنسان وتكامله، فالإنسان ميال بطبيعته لأن يقول كلّ ما يعلمه ويعرفه، مع أن معظمه لا يتناسب من حيث القيمة مع ما يقوله، في حين أن الصمت والتأمل والتفكر يعطي نتائج أفضل، فإن الإبداع في كلّ مجالات الحياة يظهر نتيجة الصمت والتأمل وليس الكلام.

فنجد أن كبار الفقهاء «السيستاني دام ظله» والباحثين والمخترعين، وأشهر الأدباء والفلاسفة «كسقراط وارسطوا» وغيرهم، يتميزون بحبهم وميلهم للوحدة والانعزال، وإتخاذهم من الصمت لغة ومنهجا.. فلا وقت لديهم لإهدار طاقتهم في الكلام الفارغ ويفضلون توظيفها في التأمل والتدبر بعيداً عن الثرثرة والضوضاء.

فكثير ٌ منا يعتقد أن الشخصية الصامته غير إجتماعيه وإنطوائية على ذاتها ومعقدة، ولكن الدراسات أثبتت أن الإنسان الصامت الهادئ، الذي لا يتكلم كثيرا ً، هو إنسان مليء بالتساؤلات، تدور في عقله الآلاف من الأفكار، إنسان بداخله بحر هائج يعبر عنه بصمت، إنسان يحلل كل ما يدور حوله، ويتساءل عن كل ما يزعج عقله، ويحاول أن يجد الجواب ويخرج بخلاصات لكل ما يعترض طريقه في الحياة.

فقد روي عن رسول الله : «إذا رأيتم المؤمن صموتاً فادنوا منه فإنه يلقي الحكمة» «2»، والصموت مبالغة صامت أي كثير الصمت، والحكمة أغلى شيء في حياة الإنسان، وهذا الحديث الشريف يكشف أن الحكمة تأتي في الغالب من الصمت أكثر من الكلام، لأن الحكمة وليدة التأمّل والتدبّر والتعقّل وهذه كلّها تتحقّق في الصمت والسكوت.

ومما روي عن رسول الله أنه قال: «السكوت ذهب والكلام فضّة» «3»، لكلّ من الذهب والفضة قيمة ولكن الذهب أغلى من الفضة كما هو معلوم، هذا الحديث الشريف يجعل النسبة بين الكلام والسكوت كالنسبة بين الفضة والذهب، فكما أن للفضة قيمة وللذهب قيمة ولكن قيمة الذهب أغلى، فكذلك يمكن مقارنة السكوت إلى الكلام.

وتارة يكون الكلام واجباً، ولاشك أن السكوت غير مفضّل عليه في مثل هذه الحالة، ومثاله الأمر بالمعروف الواجب والنهي عن المنكر الحرام، وتارة يكون السكوت واجباً ويأثم الإنسان بتركه كما لو أدّى الكلام إلى قتل النفس المحترمة، وفي مثل هده الحالة يكون السكوت مفضّلاً بل لا يجوز الكلام.

آثار الصمت على الفرد والمجتمع:

1 - محبة الله عزوجل، عن رسول الله قال: فاصمت لسانك إلا من خير، أما يسرك أن تكون فيك خصلة من هذه الخصال تجرك إلى الجنة «4».

2 - دليل التقى والايمان، الإمام علي - في وصف المتقين -: إن صمت لم يغمه صمته، وإن ضحك لم يعل صوته «5»، وعنه - في صفة المؤمن -: كثير صمته، مشغول وقته «6».

3 - يطرد الشيطان بحيث كثرة الكلام قد تجر الإنسان إلى الغيبة والنميمة والخ، عن رسول الله : عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان، وعون لك على أمر دينك «7».

4 - باب لإتيان الحكمة وجلب محبة الناس، عن الإمام الرضا : إن الصمت باب من أبواب الحكمة، إن الصمت يكسب المحبة إنه دليل على كل خير «8».

5 - تظفي على المرء الهيبة، عن الإمام علي : بكثرة الصمت تكون الهيبة «9».

6 - السلامه من العداء والبغضاء، عن علي - في وصيته قبل وفاته -: الزم الصمت تسلم «10».

7 - نضج عقل المرء، عن الإمام الكاظم : دليل العاقل التفكر، ودليل التفكر الصمت» «11».

المصادر :
(١) النور الساطع في الفقه النافع، ج٢، ص٨٥٣.
(٢) بحار الأنوار: ١/ ١٥٤ باب ٤، الحديث ٣٠.
(٣) مستدرك الوسائل، ج ٩، ص١٦، ح١.
(٤) الكافي: ٢ / ١١٣ / ٥.
(٥) نهج البلاغة: الخطبة ١٩٣.
(٦) نهج البلاغة: الحكمة ٣٣٣.
(٧) البحار: ٧١ / ٢٧٩ / ١٩.
(٨) الكافي: ٢ / ١١٣ / ١.
(٩) نهج البلاغة: الحكمة ٢٢٤.
(١٠) البحار: ٧١ / ٢٨٠ / ٢٤.
(١١) البحار: ٧٨ / ٣١٢ وص ٣٠٠.