يعقوب وهموم الوطن

يعقوب أحد الأنبياء المخلَصين الذين اجتباهم الله وجعلهم أئمة يهدون بأمره، وقد ذكره القرآن الكريم غير مرة وأثنى عليه أجمل ثناء، أما حديثي فسيكون عن يعقوب الرمز أو ما يمكن أن أسميه الحالة اليعقوبية.
والحالة اليعقوبية هي الدروس المستنبطة من حياة هذا النبي العظيم والتي يمكن أن تشكل لنا منهجا نسترشده خصوصا في التعامل مع المواقف الصعبة والظروف غير الطبيعية، ومن هنا فإنني سأحاول استلهام الحالة اليعقوبية وتوظيفها في واحد من أصعب مجالات العمل في بلادنا، وأعني به الاهتمام بالشأن الوطني العام، فهذا المجال – من وجهة نظري –  هو أحوج ما يكون لتمثل هذه الحالة واستيعابها بشكل دقيق حتى يصل إلى مبتغاه.
فنحن ندرك أن المشتغل بالشأن العام، أو ما يطلق عليه رالف نادر ( المواطن العام ) هو واقع دائما بين المطرقة والسندان؛ إذ يطالب في الغالب بتصحيح جملة من الأوضاع العامة من مثل الحد من البطالة والقضاء على الفساد الإداري والمالي والتمييز بكافة أشكاله وتطبيق مبدأ المواطنة وتعزيز المشاركة السياسية وتحسين الخدمات العامة في مجالات الصحة والتعليم وغيرها، وقد يتكلل المسعى بالنجاح حينا، ويخفق في أحايين كثيرة، وهو ( أي المواطن العام ) بين توقعات الناس العريضة من جهة وإمكانات الواقع المحدودة والمخيبة للآمال من جهة أخرى يعيش في وضع لا يحسد عليه، ولذا فهو بحاجة ماسة لأن يكون يعقوبيا أكثر من غيره.
يعقوب عليه السلام كان مثال الصبر الجميل في مواجهة المحن، ففي الساعة الصعبة التي يخذله فيها أقرب الناس إليه، ويحاولون خداعه وتضليله، بل واتهامه في نفسه ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8) سورة يوسف، فإن عنوان موقفه كان الصبر والاستعانة بالله تعالى على نوائب الدهر وخذلان الأقربين ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) سورة يوسف. وقد تجرع مرارة الصبر ثلاثين سنة ليظفر في النهاية وليقضي الله حاجة في نفس يعقوب طال أمد انتظارها.
يعقوب عليه السلام لم ينس قضيته يوما ما، وما فتئ يستحضرها ويذكر الآخرين بها لتظل حاضرة في جدولهم اليومي، ولا تغيب عن مسرح ذاكرتهم، وعندما تبرموا من الحضور المكثف لتلك القضية وما يستدعيه ذلك من وخز الضمير لديهم وإيقاظ النفس اللوامة عندهم، طلبوا منه أن يكف عن ذلك في خطاب مغلف بالشفقة عليه من الهلاك ﴿قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) سورة يوسف؛ ولكنه بين لهم أنه من أهل الصبر الجميل ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (86) سورة يوسف.
يعقوب عليه السلام كان في قمة التحكم في مشاعره وانفعالاته رغم ما كان يحيط به من ممارسات تستفز الجبل الأصم، ولذا نعته القرآن مادحا سلوكه الرفيع: ﴿فَهُوَ كَظِيمٌ (84) سورة يوسف، وهي صيغة مبالغة تدل على شدة الكظم التي تعني حبس الانفعالات والسيطرة عليها، وهو سلوك لا يجيده إلا القليلون.
يعقوب عليه السلام كان متمسكا بالأمل لا يعرف لليأس طريقا؛ فرغم مرور ما يقرب من ثلاثين سنة على قضيته التي أذهبت بصره إلا إنه يطلب من بنيه أن يبحثوا بكل جد لعلهم في يوم ما يصلون لما يريد ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) سورة يوسف
يعقوب عليه السلام رسم أروع مشهد للتسامح والصفح والعفو عن المسيئين؛ بل والدعاء لهم بالمغفرة رغم كل ما فعلوه، فقد خاطبهم بأريحية الأنبياء ﴿قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) سورة يوسف.
أعتقد أن على كل من يعتبر نفسه مواطنا عاما أن يكون يعقوبيا في صبره وتحمله وطول أناته؛ يسير وفق استراتيجية محكومة بالمبادئ والرؤية بعيدة المدى، لا بالانفعالات الآنية والاستجابات المتوترة، ويعقوبيا في استحضار قضيته أو قضاياه وتذكير المعنيين بها بكافة الوسائل المتاحة، ويعقوبيا في أوقات الاستفزازات التي تأخذ أشكالا شتى تجعل الحليم حيران، ويعقوبيا في التمسك بالأمل الواثق بالله في نجاح قضيته مع العمل الدؤوب الذي لا يهدأ لبلوغ المبتغى، ويعقوبيا ينشر التسامح ويتعالى على الجراح.
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 4
1
ابراهيم بن علي الشيخ
[ القطيف - أم الحمام ]: 25 / 9 / 2009م - 3:20 ص
أخي الحبيب : الأستاذ بدر الشبيب
بالأمس كانت ( اليوسفيه ) واليوم ( اليعقوبيه ) تفننت كعادتك في نسج الأفكار الآدمية بحرفية متناهية ، وتمكنت بشكل فيه الكثير من الذكاء والفطنة من توظيف السياق القرآني وإسقاطه على الواقع المعاش في مقاربة تاريخية وسسيولوجية لا تقبل الجدل ولا تثير الإرتباك سواء في النص أو المعنى . تقبل تحياتي وإعجابي .
2
بدر الشبيب
[ أم الحمام - القطيف ]: 25 / 9 / 2009م - 9:07 ص
أخي العزيز الأستاذ ابراهيم الشيخ:
من حسن حظ كلماتي أن تقرأها أنت بما تمتلكه من قدرات إنصاتية تستخدم فيها السمعي والبصري والحسي، ومن قدرات تعبيرية هائلة تجيدها حق إجادتها.
أشكرك على تعليقاتك ذات النكهة الخاصة.
3
المستقل
[ ام الحمام - القطيف ]: 26 / 9 / 2009م - 6:12 م
الاستاذ المبجل ابو احمد :
ما لفت انتبهائي تطرقك للتسامح اليعقوبي في قصته مع ابناءه و صفحه عما اقترفوه و كم كنت اتمنى ان نتعلم من هذا الدرس الجميل و لكن ما يحز بالنفس اننا سقطنا في الامتحان بجداره فالواقع خلاف لما ينظر . لازالت الانفس يسيطر عليها الانا الجاهلي و تأخدها العزة بالاثم ليس لدينا من شجاع مؤمن يستطيع ان يسموا فوق كل هذه الترهات . للاسف شاهدت موقفا يبعث على الخجل من المعممين انفسهم اصبح بعضهم يهمش الاخر في مسألة السلام و كل له مبرراته الشيطانيه . فيا استاذي العزيز اين يعقوب و أين نحن فنحن على علاقة شديده بزليخة في شبابها و بوتيفار في حكمه و قبضته ليس لنا من رابط بيعقوب و تسامحه . و تحياتي لنفسك اليعقوبي الذي اتمنى ان يتحول لموقف عملي ممتاز بجداره و هذا ما اظنه في شخصك الكريم .
4
بدر الشبيب
[ أم الحمام ]: 26 / 9 / 2009م - 11:16 م
أخي العزيز الأستاذ المستقل:
أتفهم الحرقة التي عبرت عنها بألم طافح في حروفك الصادقة.
وأعتقد أننا جميعا - معممين وغير معممين - نحتاج أن نقرأ بعمق دعاء الإمام السجاد (ع) في طلب العفو والرحمة المذكور في صحيفته، حيث يقول:
اللهم وأيما عبد نال مني ما حظرت عليه، وانتهك مني ما حجزت عليه، فمضى بظلامتي ميتا، أو حصلت لي قبله حيا فاغفر له ما ألم به مني، واعف عنه ما أدبر به عني، ولا تقفه على ما ارتكب في، ولا تكشفه عما اكتسب بي، واجعل ما سمحت به من العفو عنهم أزكى صدقات المتصدقين، وأعلى صلات المتقربين، وعوضني من عفوي عنهم عفوك، ومن دعائي لهم رحمتك، حتى يسعد كل واحد منا بفضلك، وينجو كل منا بمنك.

أين نحن من هذا الدعاء العظيم؟
نسأل الله أن يعيننا على أنفسنا حتى نقترب من هدي عباده الصالحين.
شاعر وأديب