أن تعيشَ الموت!!

التجهيزات كانت تجري حسب المخطط.. الطعام.. الملابس.. المستلزمات الأخرى.. كل شيء يبدو في موضعه.. نحن على أهبة الإستعداد للإنطلاق.. حان اليوم الموعود

كنت قد اتفقت مسبقًا مع صديقي الأمريكي أن أقض بعضًا من إجازة عيد الشكر في منزله ثم نتجول في أنحاء الولاية.. لم يدر في خلدي قط أني سأختبر أفظع تجارب حياتي.

بالأمس فقط كنا قد انتهينا من عبء ضغوط الدراسة وهيأنا أنفسنا لقليل من المرح. حتى إذا حل الليل إلا وقد شرعنا بالسفر.

يرافقنا اثنان آخران.. يستمعون بصخب لأغانٍ شائعة.. أما أنا فحاولت جاهدًا التركيز على قراءة رواية غابرييل ماركيث « مئة عام من العزلة»، بيد أني لم أفلح وسط ضوضائهم.. ففضلت التوقف.

ما هي إلا سويعات ونحن في منزل صاحبي نتناول وجبات خفيفة ابتعناها أثناء الرحلة. في الأثناء انضم لنا شخص آخر ليرتفع عددنا إلى خمسة. ذهب الجميع إلى مضاجعهم لاحقًا، لكني آثرت السهاد استكمالًا لقراءتي. تقرر أن نذهب للينابيع الحارة.. كهف البخار.. والقلعة الثلجية في الصباح الباكر.. تحديدًا في الحادية عشر صباحًا من اليوم التالي.

أشعة الشمس المتسللة كرقراق مُذهب آذنت لي بإيقاظهم واحدًا تلو الآخر.. يستيقظون لبرهة ثم ما تفتأ حلاوة النوم أن تعيدهم إلى مخادعهم.. استغللت الفرصة لقيادة سيارة صديقي في هذا الصباح الجميل.. منظر الجبال أخاذ وشاعري.. سيدة لطيفة تتمشى مع كلبها، ألقيت عليها التحية. ثم رجعت للمنزل بعد جولة ممتعة

خرجنا متأخرين عن الموعد المحدد.. توجهنا لتناول طعام الغذاء في أحد المطاعم القريبة.. ثم بدأنا المسير نحو وجهتنا.. واستسلمت للنوم.

حين استيقظت كنا بجوار النزل.. والليل أسدل ستائره.

اقترح أحدنا تناول العشاء فوق الجبل.. لم أكن جائعًا حتى.. لكن كنت أعلم بأن صديقي يعوزه المال.. فما وجدت بدًا سوى شراء تذكرتي ركوب للتلفريك لي وله.. ليست المرة الأولى التي أصعد بها عبر التلفريك.. فلا داع للخوف.. سنقطع المسافة في غضون خمس دقائق. من الأعلى بإمكانك رؤية المدينة مزدانة بالمصابيح.. والأشجار المزينة بأضواء العيد تحيط المكان.. الليل دامس والثلوج تغمر الجبل كملاءة بيضاء.. دقائق ونحن في أعلى الجبل

البرد قارس على هذا الإرتفاع.. أسرعنا بالتوجه للمطعم.. المطعم يقع خلف متجرٍ للتحف امتلأ بهدايا عيد الميلاد والحلوى.. من مدخل المطعم، يشد انتباهك الأقداح المعلقة بجانب أفخر أنواع النبيذ.. أخشاب السنديان والأضواء الخافتة تبعث شعورًا بالدفئ.. النادلات يرتدين فساتينَ حمراء ويثرثرن بلا توقف.. تناول صاحبيْ البطاطا المهروسة مع الدجاج المشوي وفطائر التفاح. بينما اكتفيت بالعصير. بعد الفراغ من الأكل عدنا أدراجنا لأخذ التلفريك.

كنا آخر من بقي على الجبل من الزوار.. ازداد الطقس برودة.. والثلج ينهمر بلا هوادة.. صعدنا العربة سريعًا وأُغلق الباب.. لحظات وتتوقف العربة!! « من المحتمل أن أناسًا كثر يحاولون الركوب في الأسفل» قال صاحبي. « من سيصعد في هذا الوقت المتأخر من الليل؟! » تساءلت. عاودت العربة النزول وعدنا لأحاديثنا كأن شيئًا لم يكن. ثوانٍ وإذا بالعربة تتوقف مرة أخرى.. الأمر مريب.. نظرت للخارج لأجد أننا لم نبعد عن قمة الجبل سوى أمتار قليلة.. حينها بدأت العربة بالإهتزاز يمنة ويسرة.. رياح هوجاء تضربنا من كل جانب.. الرعد يزمجر بشدة.. بدأ القلق يتسلل إلى قلبي.. « لا بد أن المهندسين اللذين أنشؤوا هذا التلفريك وضعوا في الحسبان حدوث طقسٍ عاصف كهذا» حاولت طمأنة نفسي.. لكن عبثًا أحاول. غريزة الخوف شلت تفكيري.

تحركنا الهوينا.. ثم مالبثنا أن توقفنا مجددًا.. وفي كل مرة تزداد الرياح ضراوة. « ماذا إن سقطنا؟ » سأل صاحبي ونبرة الرعب جلية في كلماته.. الجروف الصخرية تنتظرنا في الأسفل.. سنتحطم هنا ببساطة. فوق سلسلة جبال Red Rock التي تنتشر في جنوب ولاية Colorado ويبلغ علوها 3000 متر فوق سطح البحر. الموت هنا هو آخر ما أحلم به.. أن تموت ليلًا بصمت.. في نقطة مرتفعة في أحد أقاصي العالم.. بعد برهة يكتشفون جثتك ويبحثون بين بطاقاتك عن ما يرشدهم إلى هويتك.. سريعًا يصل الخبر إلى أسرتك ويُفجع والداك.. تتحول بسرعة البرق إلى خبر يتداوله من لم يعرفوك يومًا.. يبدون تعاطفًا يدوم ما دامت صورة الخبر أمامهم في الشاشة.. مضحك أن تصبح خبر «كان».. حيث يلعب النحو لعبته وتغدو ممن لا يقبلون سوى الفعل الماضي صديقا.. وسرعان ما تختفي من ذاكرتهم.. «تُنسى كأنك لم تكن».. آه يا درويش.. تظل أشعارك غايةً في السحر حتى في أشد اللحظات ألمًا.

مرت أكثر من عشرين دقيقة ولم نقطع حتى نصف المسافة.. مُعلقين في المجهول. ترتعد فرائصنا من البرد الذي لم نعد نقوى على تحمله.. أليس من المفترض أن هذه الأيام أيام فرح؟.. كيف لبابا نويل أن ينزل بعربته مُحَملًا الهدايا على نفس الطريق الذي تحملنا عليه عربتنا قرابين للموت؟!.. طلب منا صاحبي الأمريكي أن نوجه أبصارنا نحو كبد السماء.. هناك كانت ترتسم علامة ضوئية للصليب المسيحي.. « المغزى من هذا الشعار أن نشعر بالحماية» قال صاحبي. نعم.. المسيح يراقبنا من السماء.. وموسيقى القداس ترن في أذني.. أشجار العيد تنير المدينة.. اليوم هو الأحد.. ياله من توقيت مثالي لنموت ونحن نغني هاليلويا.. وليباركنا ابن العذراء!

تحركت العربة من جديد.. تحركت معها أمانينا بألا تتوقف حتى نصل لبر الأمان.. لكن لا جدوى.. هذه المرة أشد من سابقيها.. بتنا نسمع صوت قرقعة شديد من داخل العربة.. والرياح ترفعنا عاليًا من الأمام والخلف.. «سأنهار قريبًا » قلت لنفسي.. تذكرت قصة أولئك الكفار اللذين استغاثوا الله بعد أن أوشكوا على الموت فوق سفينتهم.. «كيف لم تدلني فطرتي من البداية كما دلتهم؟ » قمت أدعوا الله أن ينجينا.. ثم بدأت أتوسل بأهل البيت، أم البنين، العباس.. ويال سريالية الموقف.. تراءت لي صورة من كتاب التوحيد تذكرني أن التوسل شرك.. «لا يهم إن كان شركًا أم لا.. ستعرف قريبًا».

حقًّا.. في حال مفارقتي للحياة الآن.. ماذا ينتظرني في الجانب الآخر من اللامادة.. تبًا.. إنها الجحيم.. كيف للنار أن ترفضني «أنا» بأفكاري التشكيكية.. وآثامي المتراكمة.. لكن الله غفور رحيم. ربما سيأتي ذاك الملاك الذي حمل رَجلُ «ديستوفسكي» المضحك ويحملني إلى حيث حَمَلَه.. إلى تلك الجنة التي لم يرتكب فيها أبونا الخطيئة بعد. لقد كنت دومًا مضحكًا.. أو بالأحرى أضحوكة.. مصيري أن أموت بشكل مثير للشفقة.. حتى أني لم أحظ بالحياة العادية التي طالما احتقرتها.. لازوجة.. لاعائلة.. لا شهادة.. لا منزل.. مالمضحك أكثر من هذا؟! آه.. كم هو مؤلم هذا الشعور. قد ينتظرني ما هو أكثر درامية.. من المحتمل أن أعيش كوميديا «دانتي» بنفسي.. أو لربما زيوس ينتظري ليصعقني آلاف المرات.. لكن لم لا تكون عشتار هي من تنتظرني؟.. نعم عشتار.. لقد أنهكتها لوعة الحب فأرسلت في طلبي..

« كفاك هراءً» قلت لنفسي.. « أمك هي من تنتظرك في الجانب الآخر من العالم.. يجب أن تعيش لأجلها.. يجب أن تعيش» ورحت أردد «يجب أن أعيش» كأني أحد أبطال الرسوم المتحركة.

بعد محطاتٍ متقطعة من التوقف.. وصلنا لنهاية الجبل.. زال الضغط قليلًا.. لكن لا يزال أمامنا أن نجتاز الطريق السريع.. القليل فقط.. أرجوكِ استمري في التقدم. توقفت!! وكأنها تستمع بتعذيبنا حتى النهاية.. تتقن العناد كطفل صغير.

السقوط هنا أخطر من السقوط على الجبل.. فارتفاعنا عن الأرض أطول منه عن الجبل..

« لكي ننجوا علينا أن نقفز في نفس اللحظة التي ترتطم فيها العربة بالأرض» قلت لأصحابي ساخرًا.

أن تستخدم معرفتك الفيزياء هنا!.. أنت يا من تأخذه أحلام اليقظة بأن يتجاوز آينشتاين ويكتشف نظرية كل شيء.. ثم يحصل على جائزة نوبل للفيزياء.

الواقع مرً دائما.. كمرارة الدواء.

أسررت صاحبيْ أنه إن حدث ووصلنا بسلام سأقاضي هذه الشركة التي تدير هذا المكان.. كيف لهم أن يستمروا في تشغيل التلفريك في هكذا طقس.. ولمَ لم يتم تحذيرنا قبل ذلك.. الأمريكيون عبيد المال!! سأدعي أني أصبت بأزمة نفسية مزمنة بالإضافة لفوبيا المرتفعات جراء فعلتهم. بعد ما يقارب الخمسين دقيقة في الهواء.. هبطنا للأرض بسلام.. فُتحَ الباب وتنفست الصعداء.. لاحظتُ توًا أن يدي ترجف بشدة.. لا أدري أ بسبب البرد أم بسبب الرعب الذي لحقني. استقبلنا من كان يحرك التلفريك طوال الوقت وهو مغتبط: « we made it »

صرخت في وجهه: «get off of my face.. I was scared to death up there».. كنت ناقما ومنفعلًا بحيث أن ابتسامته زادتني حنقًا. كان علي أن أشكره لحفظ حياتي بدل هذا الرد الغير مهذب.

اتجهت نحو الغرفة مهرولًا.. اتصلت على والدتي فلم ترد.. يبدو أنها نائمة.. إنه الصبح لديهم بعد كل شيء..

اتصلت على والدي..
أبي: أهلا علي..
أنا: أحبك يا أبي
أبي: وأنا أيضًا أحبك.. قل لي هل ينقصك شيء؟
أنا: لا شيء.. فقط أردت أن تعلم كم أحبك..

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 4
1
فائق المرهون
[ القطيف ]: 29 / 11 / 2014م - 7:06 م
إبداع يا علي

إبداع و كفى ...
2
زينب خباز
[ ام الحمام ]: 30 / 11 / 2014م - 2:05 م
الحمدلله على السلامة ..
صيحتني واني اقرا .. الله يردكم سالمين .. مبدع ماشاء الله عليك
3
علي معين
[ الولايات المتحدة ]: 1 / 12 / 2014م - 8:46 م
أستاذي العزيز أبو عزيز
منكم نستقي الإبداع دائمًا وأبدًا
دمت موفقًا
4
علي معين
[ الولايات المتحدة ]: 1 / 12 / 2014م - 9:03 م
الله يسلمش خيه ..
أعتذر كون القصة أبكتك :(