للموتى لغات حب أخرى «2»

لغة الحب عابرة للحدود، فهي لا تنتهي بالموت. بل الحاجة لها في ما بعد الموت أكثر إلحاحا، ومفرداتها أعمق دلالة. ذلك لأن الأموات بعد أن رحلوا عن دار العمل، لم يعد بإمكانهم استئناف عمل جديد لمضاعفة حسناتهم أو التخفيف من سيئاتهم. فقد انقطع عملهم من الدنيا إلا ما استثنته الأحاديث والروايات، نظير ما ورد عن رسول الله : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا عن ثلاثة: ولد صالح يدعو له، وعلم ينتفع به بعد موته، وصدقة جارية». لذا فإنهم يكونون في أمس الحاجة للدعاء والصدقة وأمثالها من صلة وبر وإحسان. من جهة أخرى، ونظرا لانتفاء المصلحة المباشرة الملموسة في التواصل مع الأموات، ولغياب لغة العتاب منهم في حالة انقطاع الوصل؛ فإن المداومة على التخاطب معهم بمختلف لغات الحب التي تصلهم في منازلهم الجديدة وعالمهم البرزخي تكتنز الكثير من الدلالات المتعالية على عالم المادة، والمتسامية مع الروح والغيب والخلود.

فرق كبير مثلا بين أن تزور مريضا في وعي تام، يعرفك وتعرفه، وتتبادل معه أطراف الحديث، ويدري أنك قمت بعيادته فيشكرك مقالا أو حالا؛ وبين أن تعود آخر على فراش المرض غائبا عن الوعي، لا يعلم بك غبتَ أو حضرت. في الحالة الثانية سيكون لزيارتك معنى أكثر سموا، وأقرب للحب والوفاء، وأبعد عن المجاملة وأقرب للصدق. هذا مثال تقريبي مع بعض الفارق للتواصل مع الأموات من أحبتنا. أقول مع بعض الفارق لما ذكرناه في المقال السابق من أن الموتى يشعرون بزيارتنا، فقد ورد عن الإمام الصادق قوله: «إي واللَّه إنّهم ليعلمون بكم ويفرحون بكم، ويستأنسون إليكم». لكن مع ذلك فإننا في الواقع لا نشعر بعلمهم وفرحهم وأنسهم بنا لوجود الحجب بيننا وبينهم.

ذكرنا فيما سبق أمثلة لبعض لغات الحب مع أمواتنا الذين نكن لهم مشاعر متدفقة وفياضة لم تنقطع برحيلهم، وفي هذا المقال سأضيف لغة واحدة هامة تُسعد الميت في قبره. وأعني بها لغة التواصل بحب مع من لهم عُلقة قريبة بهم، وبخاصة أولادهم، لقول الرسول : «المرء يُحفظ في وُلده». فكلما أغدقنا على أبناء المتوفى مشاعر الحب والعطف والحنان الخالصة، استطعنا أن نبعث للميت أجمل الرسائل وأرقها وأصدقها. حِفظُ المرء في وُلده له مصاديقه المتعددة المتكثرة، وتختلف من حالة إلى أخرى. فمن المصاديق على سبيل المثال لا الحصر تفقد أحوالهم، وصون حقوقهم، وتقديم كافة أشكال الرعاية والدعم المطلوبَين لهم.

فلنتذكر هذه اللغة وبقية لغات الحب الأخرى التي تحفظ تواصلنا مع الموتى بحب.

دمتم بحب.. جمعة مباركة.. أحبكم جميعا.

شاعر وأديب