الحب في نسخة صانكِي يَدِم

القدرة على التخلي عن بعض ما نشتهي من أجل ما أو من نحب، قد يصلح مقياسا لكشف الحب الحقيقي من غيره، أو ميزانا لمعرفة مقدار الحب المدعى.

فمن يدعي حب العلم مثلا، ثم لا يستطيع فراق الوسادة الناعمة والفراش الوثير لخاطر عيون العلم والمعرفة، فإنه يبقى مدعيا يكذبه الواقع. ومن يدعي حب الصحة والرشاقة، ثم لا يقدر على الامتناع عن بعض المأكولات التي تضر بصحته أو تساهم في التوسع الأفقي لكرشه، فإن حبه مشكوك فيه. وهكذا الأمر في كل ادعاء بالحب لا تشفعه ممارسة خارجية تكشف عن الاستعداد الدائم لترك ما يستطاب من ملذات ومشتهيات تقربا للمحبوب. وكلما كان الشيء المبتغى الوصول إليه ساميا، استلزم قدرة أكبر على ترك ما يحول دون بلوغه، أو يشكل عائقا في طريقه.

القدرة على الترك ترتبط ارتباطا أساسيا بقوة العزم والإرادة، وهذه يحكمها مستوى إيمان الفرد بالهدف المنشود ومدى تعلقه به. وهو ما يفسر الفرق بين فرد وآخر فيما يضحي به من مال أو وقت أو صحة أو جاه أو نفس في سبيل بلوغ مأموله.

ولعل واحدة من أفضل الوسائل المُعِينة على تنمية قدرة الترك هي تفعيل قوة التخيل الإيجابي لدى الإنسان. مثلا من يشق طريقه لنيل الشهادة العليا في مجال من المجالات، وتعترض طريقه الكثير من المصاعب والمشقات، فإنه يحتاج أن يستفيد من إحدى النعم الربانية التي اختص بها الإنسان، وهي التخيل. فحين يتخيل نفسه على منصة التخرج مستلما شهادته، وحوله محبوه يحتفون به، سيساعده ذلك على تجاوز العقبات، ويمده بمزيد من العزيمة والإصرار والتحدي.

لا أظن أن أحدا منا شاهد في حياته نهرا من لبن أو من عسل أو من خمر، ولكن القرآن يذكر لنا ذلك ضمن أوصاف الجنة التي وُعِد المتقون، فهو يدعونا إلى تخيل مشهد فريد يحفزنا على المضي قدما والفكاك مما يعيق مسيرتنا في قوس الصعود، ويشدنا إلى الأرض. يقول تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ».

«صانكي يَدِم Sanki Yedim» هي كلمة تركية معناها «كأني أكلت». وفي إستانبول تُطلق على مسجد بناه شخص يدعى «خير الدين كججي أفندي». هذا الرجل العادي كان لديه حلم بأن يبني مسجدا من ماله الخاص. ولأنه لم يكن غنيا فقد اخترع فكرة تقوم على الخيال وتنتهي إلى التخلي عن بعض ما تشتهيه نفسه توفيرا للمال لأجل الهدف الأسمى. كان كلما ذهب للسوق، وتاقت نفسه لشيء من اللحم أو الحلوى أو الفاكهة، يقول لها: صانكي يَدِم. ثم يضع ثمن ما تخلى عنه في صندوق خاص لمشروع المسجد. ظل خير الدين يكتفي بالقليل من الأكل طيلة ما يقرب من عشرين عاما، حتى استطاع أن يبني مسجدا صغيرا. كان ذلك في القرن الثامن عشر الميلادي.

يمكننا نحن أيضا أن نمارس «صانكي يَدِم» في حياتنا إذا قمنا بترتيب أولوياتنا بشكل صحيح، لنعرف الأهم منها فالمهم. عندها نستطيع أن نحدد متى يمكن التخلي عن ماذا، كما سنكتشف أي الأشياء أحب إلينا حقيقة. «صانكي يَدِم» اختبار صعب، ولكنه يستحق التجربة.

دمتم بحب.. جمعة مباركة.. أحبكم جميعا..

شاعر وأديب