السُّلطة بالحب

السُّلطة في العالم الثالث في أغلب أحوالها تعتبر مغنما لصاحبها، يحقق من ورائها المكاسب المادية والمعنوية التي لا يمكنه تحقيقها وهو خارجها. ولذا نرى أصحاب السلطة يعضون عليها بالنواجذ، ويتمسكون بالكراسي التي تدور تمسك الرضيع بثدي أمه غير الموظفة.

وعندما تُنزع من أحدهم السلطة لأي سبب، فإنه سرعان ما يظهر عليه الذبول، ويشعر أنه أصبح كائنا غير ذي أهمية، لأن أهميته مرتبطة بالسلطة وجودا وعدما.

السلطة حين لا تكون مقيدة بقانون، وغير قائمة على أساس متين من المشروعية، فإنها تجنح بصاحبها إلى الاستئثار. و«من ملك استأثر» تشير إلى هذا المعنى. يقول الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه «في ظلال نهج البلاغة» معلقا على هذه المقولة: ”كل أو جل الذين يملكون القوة يستبدون وينهبون.

والذي يتمنى السلطان يريده لهذه الغاية، أما الشاذ النادر فلا يقاس عليه، ومن هنا نادى الفوضويون بإلغاء الدولة والسلطة“.

والفوضوية مذهب فلسفي كان يرى أن كل أشكال السلطة تعتمد على العنف والإكراه، ولذلك فضررها أكبر من نفعها، إن كان لها نفع أصلا.

وهو أمر لا يمكننا موافقته لأنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر كما يقول الإمام علي . وما شاهدناه في الدول التي أصبحت دون سلطة مركزية كالصومال مثلا من تقاتل وخراب خير دليل على ضرورة السلطة.

وما دامت مسألة السلطة ضرورية، وفي ذات الوقت نزاعة للشر، فإنه لا بد من ضوابط لتقييد ممارساتها. وهو ما يتم في الدول الديمقراطية من خلال تقييدها دستوريا، وتفتيتها إلى ثلاث سلطات مستقلة «تنفيذية وتشريعية وقضائية» منعا لاحتكارها وضبطا لأدائها. ومع كل الاحتياطات، فإن الديمقراطية ليست هي الحل الأمثل باعتراف أصحابها، ولكنها الأقل سوءا بحسب ونستون تشرشل.

فالديمقراطية الغربية لم تمنع وصول أفراد سيئين مثل سيلفيو بيرلسكوني رئيس الوزراء الإيطالي إلى هذا المنصب والاحتفاظ به لمدة طويلة، برغم الفضائح المتوالية التي تلاحقه حتى إن اسمه صار مقرونا في غوغل بالفضائح. وهذا واحد من سيئات تلك الديمقراطية. كما إنها لم تمنع أيضا من شن الحروب تحت ذرائع كاذبة، واستخدام أقذر أسلحة الدمار الشامل وغير الشامل من أجل الهيمنة على الآخر ومقدراته. في عهد الإمام علي لمالك الأشتر حين عينه واليا على مصر، ركز فيما ركز على الجانب الأخلاقي الشخصي الذي ينبغي أن يتمتع به صاحب السلطة، حتى لا يستولي عليه حبها، فلا يملأ جوفه منها شيء.

هذا لا يمنع طبعا من وجود قيود أخرى كالتي تأخذ بها الأنظمة الديمقراطية في عصرنا الراهن، بل هو يسد ثغرة من ثغراتها. فبعد أن أمره بتعظيم رصيده من العمل الصالح، ونهي النفس عن الهوى، قائلا له: ”فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَامْلِكْ هَوَاكَ وشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ“ شدد على ممارسة السلطة بالحب ومعاملة الجميع بما فيهم غير المسلمين أو الأقليات الدينية، حسب الاصطلاح الحديث، معاملة حسنة تقوم على العفو والصفح والاستيعاب: وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ. ولَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ. يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ، وتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، ويُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ والْخَطَإِ. فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وصَفْحِكَ مِثْل الَّذِي تُحِبُّ وتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّه مِنْ عَفْوِه وصَفْحِه. فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، ووَالِي الأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، واللَّه فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ.

وثيقة الحب، كما أحب أن أسمي هذا العهد الدستوري، هي مفخرة من المفاخر التي ينبغي أن يتعرف على نصها الطويل كل مسلم، بل كل إنسان.

فالإنسانية جميعا تحتاج لأن يكون في السلطة أيا كان مستواها الذين يجمعون الكفاءة الإدارية والقلب الصادق النابض بالحب.

دمتم بحب.. جمعة مباركة.. أحبكم جميعا..

شاعر وأديب