الحب في مناجيات الحب

 

المُناجَيات جمع مناجاة، مثل مباريات ومباراة. والمناجاة هي الحديث الخاص والبوح الخفي.

في تراث أدعية الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) توجد مجموعة من المناجيات، لكل واحدة منها عنوان خاص ومضمون يحكيه العنوان.

وهي تجمع في عناوينها ومضامينها حالات الإنسان المختلفة في علاقته مع ربه والخطاب الأمثل في كل حالة. فهناك على سبيل المثال مناجاة التائبين، ومناجاة الشاكِين، وثالثة للخائفين، ورابعة للراجين، وخامسة للراغبين، وسادسة للشاكرين، وسابعة للمطيعين، وهكذا...

هذه المناجيات كما تعلمنا آداب الدعاء وجماليات الخطاب مع الذات المقدسة، فإنها توضح لنا السبل التي ينبغي أن نسلكها لنكون بالفعل من مصاديق المناجين لكل مناجاة نتلوها.

تحفل المناجيات جميعها وعددها (15) بمفردات الحب لخالق الحب تبارك وتعالى، وتبين لنا أحوال المحبين وما يتقلبون فيه من لذائذ معنوية لا يذوقها إلا من أخلص قلبه ونفسه لله تعالى.

ومن تلك اللذائذ المناجاة ذاتها التي تعتبر طريقا موصلا للحب. يقول عليه السلام في (مناجاة المطيعين لله) موضحا سبيل الحب:  اللَّهُمَّ احْمِلْنا فِي سُفُنِ نَجاتِكَ، وَمَتِّعْنا بِلَذِيْذِ مُناجاتِكَ، وَأَوْرِدْنا حِياضَ حُبِّكَ، وَأَذِقْنا حَلاوَةَ وُدِّكَ وَقُرْبِكَ، وَاجْعَلْ جِهادَنا فِيكَ، وَهَمَّنا فِي طاعَتِكَ، وَأَخْلِصْ نِيَّاتِنا فِي مُعامَلَتِكَ، فَإنَّا بِكَ وَلَكَ، وَلا وَسِيلَةَ لَنا إلَيْكَ إلاَّ أَنْتَ.

وفي (مناجاة المريدين) نطلع على ما يفعله الحب بالمحبين من توجه تام لله تعالى، لا يفترون عن العبادة، ويسارعون الخطى نحو المحبوب، ينهلون من نمير الحب الصافي. يقول عليه السلام: وَأَلْحِقْنا بِعِبادِكَ الَّذِينَ هُمْ بِالبِدارِ إِلَيْكَ يُسارِعُونَ، وَبابَكَ عَلى الدَّوامِ يَطْرِقُونَ، وَإيَّاكَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ يَعْبُدُونَ، وَهُمْ مِنْ هَيْبَتِكَ مُشْفِقُونَ، الَّذِينَ صَفَّيْتَ لَهُمْ المَشارِبَ، وَبَلَّغْتَهُمُ الرَّغائِبَ، وَأَنْجَحْتَ لَهُمُ المَطالِبَ، وَقَضَيْتَ لَهُمْ مِنْ فَضْلِكَ المَآرِبَ، وَمَلأتَ لَهُمْ ضَمائِرَهُمْ مِنْ حُبِّكَ، وَرَوَّيْتَهُمْ مِنْ صافِي شِرْبِكَ؛ فَبِكَ إِلى لَذِيذِ مُناجاتِكَ وَصَلُوا وَمِنْكَ أَقْصى مَقاصِدِهِمْ حَصَّلُوا.

ولا يمكن أن يكون العبد مريدا لله تعالى حتى يصل إلى حالة الانقطاع لله دون غيره، فعندها يستطيع أن يتفاعل مع قوله عليه السلام:  فَقَدِ انْقطَعَتْ إلَيْكَ هِمَّتِي، وَانْصَرَفَتْ نَحْوَكَ رَغْبَتِي، فَأَنْتَ لاَ غَيْرُكَ مُرادِي، وَلَكَ لا لِسِواكَ سَهَرِي وَسُهادِي، وَلِقاؤُكَ قُرَّةُ عَيْني، وَوَصْلُكَ مُنى نَفْسِي، وَإلَيْكَ شَوْقِي، وَفِي مَحَبَّتِكَ وَلَهِي، وَإلى هَواكَ صَبابَتِي، وَرِضاكَ بُغْيَتي، وَرُؤْيَتُكَ حاجَتِي، وَجِوارُكَ طَلَبِي، وَقُرْبُكَ غايَةُ سُؤْلِي، وَفِي مُنَاجَاتِكَ رَوْحِي وَراحَتِي، وَعِنْدَكَ دَواءُ عِلَّتِي، وَشِفاءُ غُلَّتِي، وَبَرْدُ لَوْعَتِي، وَكَشْفُ كُرْبَتِي.

وإذا وصل العبد لحالة الانقطاع لله تلك، أتاه الفيض الرباني باصطفائه لقربه وولايته، وإخلاصه لوده ومحبته، وتشويقه إلى لقائه، وغيرها من الفيوضات المذكورة في (مناجاة المحبين) والتي منها الرضا بقضاء الله، وهيام القلب لإرادة الله، فلا يريد إلا ما يريد الرب، وتفريغ الفؤاد لحبه تعالى.

وتكشف (مناجاة العارفين) عن مستوى اليقين الذي يبلغه المحبون، إذ قلب المحب سليم من كل شائبة، بالغ أعلى درجات المعرفة. يقول عليه السلام: إلهِي فَاجْعَلْنا مِنَ الَّذِينَ تَرَسَّخَتْ أَشْجارُ الشَّوقِ إلَيْكَ فِي حَدائِقِ صُدُورِهِمْ، وَأَخَذَتْ لَوْعَةُ مَحَبَّتِكَ بِمَجامِعِ قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ إلَى أَوْكارِ الأَفْكارِ يَأْوُونَ، وَفِي رِياضِ الْقُرْبِ وَالْمُكاشَفَةِ يَرْتَعُونَ، وَمِنْ حِياضِ الْمَحَبَّةِ بِكَأْسِ الْمُلاطَفَةِ يَكْرَعُونَ، وَشَرايعَ الْمُصافاةِ يَرِدُونَ، قَدْ كُشِفَ الْغِطاءُ عَنْ أَبْصَارِهِمْ، وَانْجَلَتْ ظُلْمَةُ الرَّيْبِ عَنْ عَقائِدِهِمْ، وَانْتَفَتْ مُخالَجَةُ الشَّكِّ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَسَرائِرِهِمْ، وَانْشَرَحَتْ بِتَحْقِيقِ الْمَعْرِفَةِ صُدُورُهُمْ.

تحتاج كل مناجاة في الواقع لحديث خاص منفرد، بل لأحاديث طويلة، لعلنا نوفيها بعض حقها لغة ومعنى. ولكن ما لا يُدرك كله لا يُترك كله. فلنحاول الاقتراب من هذا الكنز الثمين لعلنا نحظى برشحات من حبه الدافق.

دمتم بحب .. جمعة مباركة .. أحبكم جميعا.

شاعر وأديب