مجتمع المؤسسات المنعشة 29

 

 

 

عندما كنا صغارا كانت ألعابنا وتسلياتنا عملية تستهلك وقتنا وجهدنا في المرح الجماعي البريء الذي يزيدنا صحة وانتعاشا، بعكس ألعاب اليوم الإلكترونية التي تميل إلى الفردية والانعزالية وتفسد الصحة. في تلك الأيام ما كنا نرى طفلا يشكو من سمنة، فالكل نحيف رشيق. في أحد الأيام كنا نحفر ما نسميه (عينا)، وهي عبارة عن حفرة لا يتجاوز عمقها المترين، يخرج منها الماء، حين كان الماء يتدفق في منطقتنا طبيعيا قبل أن ينضب بسبب مشاريع حقن آبار النفط بالمياه (water injection) وقبل تدمير البيئة من حولنا. فإذا كان سكان مدينة الرياض اليوم يشتكون من تهديد (اسمنت اليمامة) ومصفاة أرامكو للبيئة والصحة، فإن المنطقة الشرقية نالها النصيب الأوفر من تدمير البيئة وصحة الإنسان.

نعود للحفر البريء، إذ بينما نحن نحفر بأدواتنا البسيطة وصلنا إلى منطقة صلبة، فقال بعضنا: لقد وصلنا إلى الجبل، أي الصخر. وفي الواقع لم يكن هناك صخر أو جبل. المفاجأة أن أحد الأطفال معنا صرخ فينا بكل براءة غبية طالبا إيقاف مواصلة الحفر، والسبب أن أباه يعمل في الجبل، فخاف أن يخرج ويراه يلعب في التراب. كان الناس وقتها يسمون منطقة الظهران بالجبل، وكانت الأمهات يرددن أن أزواجهن يعملن في الجبل أي الظهران، وهو ما لم يفهمه الطفل حينذاك.

أظن أن واحدا من سلبيات أرامكو على مجتمعنا أن جعلت القوى العاملة تستأنس بالوظيفة وتستوحش من التجارة، فخبت روح المغامرة، وأصبح كل فرد لا يفكر إلا في الحصول على وظيفة مضمونة يأتيه رزقه منها، وصار الاتجاه لغير الوظيفة أمرا غير محبذ اجتماعيا. لذا نعاني اليوم من ندرة الاقتصاديين والمشتغلين بالاستثمار في المجال الصناعي. فطبقة رجال الأعمال في مجتمعنا معظمها من المستثمرين العقاريين، وهو استثمار يدر عوائد كبيرة في فترة قياسية ومخاطره قليلة جدا، بل تكاد تكون نادرة، ولكنه لا يخلق وظائف تذكر، وبالتالي فإن عائده الاجتماعي ضعيف جدا. وكمثال على ذلك، نرى في الوقت الراهن (2013 م) أعدادا متزايدة من المتقاعدين من شركة أرامكو والذين يحصلون غالبا على مبالغ مجزية في نهاية الخدمة، نراهم لا يتجهون لتكوين شركات اقتصادية يستثمرون فيها أموالهم ويوظفون خبراتهم ويساهمون في دفع عجلة التنمية والاقتصاد في مجتمعنا إلى الأمام. وأقصى ما يفعله أغلبهم هو تكرار الصورة النمطية للتجار السابقين باستثمار أموالهم في سوق العقار. أما شهاداتهم الأكاديمية وخبراتهم العملية فتذهب أدراج الرياح. وإذا كان هذا حال المتعلمين المتمولين أصحاب الخبرات الطويلة، فكيف بحال غيرهم؟

أحد الأدلة على عدم التوجه والاهتمام بالجانب الاقتصادي والتنموي هو ما تشتكي منه الندوات الاقتصادية من قلة في الحضور رغم مساسها بالواقع المعاش. ويمكن قراءة ذلك في أنشطة منتدى الاقتصاد والتنمية بالقطيف، حيث الكثير من الناس يجهلون وللأسف وجود هذا المنتدى، فضلا عن المشاركة في فعالياته.

إن الاستمرار في هذه الطريقة من التفكير سيجعل الأجيال القادمة تحت رحمة البطالة أو الوظائف ذات الرواتب المتدنية. فإذا كانت سوق العمل غير قادرة حاليا على توفير وظائف لعدد  15000 باحث وباحثة عن العمل من خريجي برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي، وبعضهم يحمل الماجستير والدكتوراة، بحسب تقدير عضو لجنة الموارد البشرية في الغرفة التجارية بجدة، فكيف سيكون المستقبل؟

من هنا فإننا بحاجة إلى نشر الوعي الاقتصادي والاستثماري بصورة واسعة في أوساط مجتمعاتنا،  ويمكن لمنتدى الاقتصاد والتنمية أن يلعب دورا  على هذا الصعيد. كما نتطلع إلى ضرورة إيجاد مؤسسات اقتصادية تجارية وصناعية عملاقة، تركز على اقتصاديات المعرفة بمختلف مجالاتها الحديثة والتي تنمو بشكل مضطرد، وليس على الاقتصاديات التقليدية.

شاعر وأديب