الخباز: رؤية فلكية مفقودة

 

 


"بقدر ما أستطيع أن أرى، فإن مثل هذه النظرية –الانفجار العظيم- لا تزال منفصلة تماما عن أي أسئلة ميتافيزيائية ودينية، وإنها تدع المجال للماديّ أن ينكر أيّ كائن فائق القدرة، وللمؤمن أن يزيل أي محاولةٍ للإلمام بإلهه. إن هذه النظرية تتوافق مع أشعيا حين يتحدث عن الإله الخفي، الخفيّ حتى في بداية الكون"

(جورج لوميتر: عالم فلك وقس).


كنت مترقبا ماذا لدى "السيد منير الخباز" في ليلة الخامس من محرم هذا العام حول نظريّة الانفجار العظيم، ولا أنكر أن فكرةً مبدئية تشكلت لديّ حول الأسلوب الذي سيتخذه تلك الليلة. فليس ثمة هناك أيّ إشكال في أن تكون معتقدا بالنظريّة وأن تكون مؤمنا بفكرة الإله. فالمدرسة العلمية، أو ما أشار لها الخباز بالمدرسة الوضعيّة كانت ولا تزال تبني مناهجها التجريبية من منطلق الظاهرة Phenomena التي يتم رصد أثرها بمختلف طرق الإحساس. ولا أعني بالإحساس أدواتنا التقليدية (الحواس الخمس)، وإنما ما يتم تثبيته علميّا بتعقب آثاره بالأدوات المعقدة التي أثبتت جدارتها مقارنة بقدرات البشر البسيطة.

جاء بحث الخباز في تلك الليلة منطلقا بشرح النظريّة ومعالمها، منتقلا بعدها للفلسفة في محاولة لتفنيد الدعوة القائمة على عدم الحاجة لخالق أو مسيّر للكون إلا أنه استعان بالمدرسة العلمية أيضا بقانون الاحتمال الرياضي والذي ارتكب خطأً فادحا في عرضه وتطبيقه. وبعد ذلك ختم المتبقي مستعينا بالفلسفة مجددا وبتعبير أدق مبدأ العليّة.

ورغم الأخطاء التي وردت في استعراض النظرية والتضارب في بعض المصطلحات العلمية إلا أن الانصاف ينص على أن الخباز كان جيّدا نسبيّا في تقديمها ولستُ أهدف في هذا المقال لتصحيح الأخطاء البحتة لمعرفتي بالنظريّة واستيعابي لما كان يريد أن يوصله الخباز أثناء استماعي لمحاضرته ولم يوفق فيه فعلى سبيل المثال لا الحصر اعتبر الخباز أن الكون في بدايته ذرة صغيرة، وهذا محال علميّا والصحيح أن الكون هو عبارة عن (نقطة تفرد) Singularity  ويمتاز بدرجة حرارة وكثافة عاليتين يستحيل على الذرة أو الجزيء أن يرتبطا كيميائيا. وفي نقطة أخرى يشير الخباز واصفا حدوث التموّج الكمّي بواسطة جزيئان يظهران ويختفيان والصحيح أنهما جسيمان دون الذرة Subatomic Particle وليتمكن القارئ من تحديد مقصدي هنا، أشير مثلا للبروتون الذي يكّون جزءا من عناصر تكوين الذرة. هذا البروتون هو جسيم أيضا ولكنه ليس جسيما أوليّا، والمقصود بالأولي أن هذا الجسيم يتكون من ثلاثة جسيمات أخرى "كوارك" Quark.

الغريب أن الخباز وصف التموج الكميّ (Quantum Fluctuations) بجسيمين في بادئ الأمر ثم استدرك قائلا جزيئين معتقدا أن ذلك يقيّم جملته. وهنالك أخطاء عدة في أمثلة ومواضع أخرى سواء في شرح النظريّة أو طرح الفكرة العلمية إلا أنها ليست بذات أهميّة إذ يمكن للقارئ أن يستعين بأيّ مرجع فيزيائي يشرح النظريّة وأساليب البحث العلمي Scientific Research.

عمد الخباز لاستنزاف بعض من مصداقية النظرية واعتبرها فرضيّة في مواضع أخرى وهذا يطرح إشكالا كبيرا في التفريق بين النظرية والفرضيّة. ولا بد أن نعرف أن النظريّة ليست ما يعتقده شخص أو مؤسسة وإنما تدل على إطار صارم ومدعّم يستند لمجموعة من الأدلة والتوقعات التي تم التحقق من صحتها وصمدت أمام اختبارات تشكيكية معقدة. وأما ما تعنيه لفظة نظرية هو في كونها قابلة للمراجعة ولو بعد سنوات طويلة حيث أن المنهج العلمي لا يتبنى الحقيقة المطلقة وإنما هو في رحلة للبحث عن الحقيقة وهذا لا يعني أن النظريّة مادة لا يمكن الوثوق بها.

كما أريد الإشارة للمنهجية التي أتبعها في المقال:

أولا: إشارتي للفظة العلم أو المنهج العلمي هو ما يتعلق بالعلوم الطبيعية وليس المنهجية الدينية. والشيءّ الآخر أن باب عدم الحاجة للخالق ليس نتاجا علميّا على أية حال وإنما فكرة فلسفية أيضا تبناها ستيفن هوكينج، إذ وضّح في أكثر من مؤتمر أن استنتاجه مستخلص من منحى فلسفي فالمنهجية العلميّة ليس من شأنها أن تنفي أو تثبت فكرة الإله لعدة حواجز علميّة وليست فلسفية أو دينية رغم أن الاعتقاد بالنظريّة قد يدعّم تلك الفكرة الفلسفية. وهنا أتذكر مقدمة كتاب عالم الأحياء ريتشارد داروين حيث يقول "أن ما أكتبه هو بحث علمي بحت وليس متعلقا بإله، أما إن كان الإله سيعتبر ذلك إساءةً له فهو شأنه".

ثانيا: سأحاول أن لا ألجأ قدر الإمكان لتصحيح الأخطاء العلمية التي وقع فيها الخباز في وصف النظرية وكذلك الأمثلة التي استخدمها لتبسيط فكرة النظرية وكما ذكرت مسبقا أن الكثير من هذه المعلومات متوفرة للجميع ممن لديه الرغبة بالإطلاع.

لذلك أبدأ مباشرةً بالمحور الثاني من بحثه حيث لجأ لوصف القوة المتحكمة بالقوانين على أنها "قوّة حكيمة" وثمّ بعثر قانون الاحتمالات الرياضيّ وفرض ظواهر أخرى بطريقة خاطئة.

المنهج العلمي للمدرسة العلمية

بتفصيل أكثر يتوجب علينا هنا الوقوف على المنهج العلمي وهو المنهج المتعلق بدراسة العلوم الطبيعية وقد وقع الخباز في مغالطة بزعمه أن مؤتمر فيينا دعى لفهم العالم من مفهومه العلمي مُسقطا ذلك على الأفكار الأخرى بشكل غير متقن كالفلسفة. والمنهج العلمي هو في أساسه منهجية فلسفية فنحن نعرف أن فرعا من الابسطمولوجية Epistemology  التي تكثف الاهتمام بالأدلة والمشاهدات والتجارب مقابل البرهنة مثالا على ذلك وتُعرف بالقانون الاستنباطي Empirical  ويجدر الإشارة إلى أن هذا المنهج يختلف عن ما يعرف بالتجربيّة    Empiricism نوعا ما. فالصرامة في تحديد المنهج العلمي (القانون الاستنباطي) هدفه الأول التقليل من الأخطاء الواردة من الانحياز وغيره، فعلى سبيل المثال قد تأخذ بنا التجريبية لنتائج تؤثر فيها تجربة الباحث الشخصية. وقد عمد العلماء لتقنين تلك الأخطاء وتقليل نسبتها لتُثبّت لدى الأبحاث شيئا من المتانة. وأن الذي يعطي هذه الأبحاث دقتها قوة أنها لا تسمح لأي فلسفة أخرى قائمة على التسلسل البرهاني مثالا على ذلك، حيث أنها لا تقبل إلا أن يكون البحث قابلا لأن يتعرض لتجربة حسيّة الأثر ويصمد في اختبارات الشكوك وليس لأن التوجه السائد هو رفض الفلسفة المعرفية كفكرة الإله وغيره. مثل هذه الأفكار لا يمكن نفيها أو إثباتها، فلا معنى لها ضمن الإطار العلمي الذي يتعامل مع ظواهر حسيّة الأثر بغض النظر عن كونها ذات معنى على  مستويات شخصية أو حتى اجتماعية. فلو اعُتبرتْ فلسفةٌ ذاتيّة المنطق داخلة كمنهج ضمن مستندات أبحاث المدرسة العلمية فإن كثيرا من الأخطاء ستظهر بينما منهجية التجارب القائمة على الموضوعية عوضا عن الذاتية هي أقل عرضة للتناقض والانحياز.

وعلى سبيل المثال، ظاهرة طبيعية ما كزرقة السماء يتم إخضاعها للمقياس العلمي وبعد فرضيات وبحوث تجريبية يتثبت لدينا أنه استنادا لعدة عوامل كالطول الموجي والجسيمات المتواجدة في الغلاف الجوي وكثافته وبعد سلسلة من التجارب العملية يتم اعتمادها نظرية. وحين لا تتوفر الامكانيات فلنفرض أننا لم نتمكن من أن نتفحص زرقة السماء لعجزنا عن إثبات ذلك فإن دراسته الفلسفية بتسلسها البرهاني/البديهي قد لا تضيف الكثير فالأخرى قد لا تكون قادرة على الإثبات أو النفي. المنهجيّة العلمية الصارمة أثبتت جدارتها على مر العصور وإن نظرة خاطفة من حولنا تؤكد لنا ما أضافه العلم لحياتنا وأساليب معيشتنا.

والجدير بالذكر أن العلوم الطبيعية كانت تعرف في السابق بالفلسفة الطبيعيّة. أيضا أشير إلى أن علم الرياضيات يستند لأسس مختلفة نوعا ما عن الأسس المتعلقة بالعلوم الطبيعية في بعض نواحيه فالرياضيات يستند للمسلمّات في تأسيس بعض استنتاجاته الاستنادية لذلك غالبا ما يعتبر الرياضيون البيان الرياضي المستند على المشاهدة والتجربة بيانا أكثر صلابة وأهمية لهم. وما أود تلخيصه هنا، أن المنهجية العلمية تهدف لتقليل الاخطاء وليس لأنها تعارض الفلسفة كما فهم الخباز. والسبيل الصحيح في مراجعة النظريات العلمية أنه يتم تفنيد منهجها العلمي بدلائله القائمة عليها وليس بإسقاط فلسفي خارجي قائم على تسلسل بديهي يقبل الانحياز. فالدقة التي تحيط بالمنهج العلمي تفوق ما لدى الفلسفة من تنظير فكيف يتم اقناع أحدا ما بفكرةٍ محضة مقابل الأثر التجريبي!.

قانون الاحتمالات الرياضي:

حاول الخباز دحض المنهج العلمي (المنهج الذي يرفض أن يعتبر الفلسفة الذاتيّة التي تخلو من المشاهدات والتجارب ركنا في استنباط قانونه) باستخدام قانون الاحتمالات الرياضي بشكل غير موفق. كما عرض الخباز فكرته بشكل خاطئ وكذلك كان استنتاجه أيضا. فأن تسحب ورقة كُتب عليها واحد أو خمسة أو عشرة هو احتمال واحد من عشرة (110) طالما كانت العشرة أوراق مرشحة دائما. لكن الواقع أن مقصده كان مختلفا فكان يرمي لأن تسحب ثلاث أوراق وتظهر بشكل تسلسلي. مثلا أن تكون النتائج مرتبه على النحو التالي 1، 2، 3. وهنا تنكمش الاحتمالية شيئا فشيئا كلما ضيقنا الاحتمال مع الأخذ في الاعتبار أن في كل مرة تسحب فيها رقما ينخفض عدد المرشحين من 10 ورقات لتسعة وهكذا تتغير الاحتمالات ويمكن بسهولة إيجاد احتمالية أن ينشأ لنا التسلسل العشري عبر استخدام قانون التبديل  Permutation وسيظهر لنا الناتج الذي يختلف كليا عن ما توصل  إليه الخباز.

والأهم من ذلك كله لا يكمن في تحديد الخطأ في كيفية التعامل مع قوانين الاحتمالات واستخدامها وإنما في فهم نتائجها أيضا. فالاحتمال يفرض ذاته وليس كونه ضئيلا جدا يعني أن احتمالية وقوعه مستحيلة وإلا لما كان احتمالا. فهو وارد طالما كان ضمن الاحتمالات. وفي حالات خاصة تتعلق بالاستعيان Sample نلجأ للتخلص من القيم الشاذة.

سأعيد طرح مثال الخباز نفسه لتتضح الصورة، فلنفرض أن لدينا خمسون فرصة وكل فرصة تتكون من عشر سحبات للأرقام العشرة. مع معرفتنا المسبقة بضعف الاحتمالية إلا أن نتيجة التي سوف تظهر لنا الأعداد مرتبة تظل واردة رغم حجمها الضئيل عوضا على  أن الصدفة قد يساهم في وقوعها ولو من أول مرة أوقد لا تظهر. لكن في حالة توفير عدد لا منتهي من الفرص لسحب الأعداد فإن الاحتمالية ستكون واقعة لا محالة. ويمكن تطبيق ذلك بمحاكاة كمبيوترية غير أنّ الخباز وصل إلى ادعاء غريب جدا وهو أن لا معنى لتلك القيمة عند الرياضيين وهذا خطأٌ فادح ولا مرجعية له في استناده.

ولك أن تتصور أن الفرص الواردة لأن تظهر الجسيمات الأولية في الكون لا نهائية في نقطة التفرد التي تتمتع بحالة الصفر حيث أن الحسابات الحديثة للمادة السوداء Dark Matter واكتشاف العصر الحديث لبوزون هيجز Higgs Boson يجعل من حالة الصفر حالة منطقية محتملة ولأن تلك الحادثة تكللت بالنجاح لذلك نحن هنا، ولو أنها لم تكن محتملة فلن نكون هنا.

فالنحلة تميز ألوان الزهور، لانها تعي أن قدرتها على قراءة الألوان ستخلص لتحصيل غذائها اليومي ولو فرضنا أنها فشلت في تمييز ذلك لما بقي النحل على قيد الحياة. وليس لأن أحدا يوجهها لمثل هذا التصرف وإنما كي تبقى على قيد الحياة. مثلنا تماما فلو لم تنجح حالة تكون الجسيمات الأولية لما كنّا هنا أبدا.

القوانين ليست ذكية:

الجدال القائم على فكرة التصميم الذكي   Intelligent Design كان خارج توقعاتي تماما وإنني لأعتبره صدمة أن يكون جدالا أكل عليه الدهر وشرب لا يصمد أمام المنهج العلمي مطلقا لأن يكون أداة للحجة بها على العلم ذاته. فالكون ليس ذكيا وكذلك القوانين التي وصفها الخباز بشروط توفرت ضمن حسابات تصميمية عالية الدقة تخلو من الشوائب التي تعكرها وجميع الأمثلة التي سردها الخباز لتدعيم حجته تناقص الفكرة التي أراد طرحها فنسبة الأكسجين مثلا تشكل 21% من الغلاف الجوي غير أن النسبة لم تكن كذلك وإنما مرت عبر تطور خاص بها بدءا من البكتيريا التي أنتجتها وإضافة لذلك كله أن توزيع الأكسجين الحالي متباين في كوكبنا أيضا فالغابات تكثر فيها كثافة الأكسجين وإن اختلاف درجة الحرارة تؤثر في توزيع نسبة الأكسجين. أيضا نحن نقترب للشمس ضمن مسارنا الفلكي ولم نحترق والماء أيضا يغلي عند مئة لظروف معينة كالضغط وخصائص أخرى تتغير مع تغيرها فدرجة الغليان ليست ثابتة وهي غير حتمية وكذلك حالتها الذاتية منفصلة عنها فإمكاننا أن نغلي الماء دون النار بالاشعاع مثلا.

الظواهر بعضها تتحمل الصدف وخصوصا في ما يتعلق بدراسة فيزياء الكم لذلك نلجأ للمتوسط الحسابي للحصول على أدق نتائج العشوائية في الأحداث والاحتمالية. لنضرب الآن مثالا عمليا لتصوير الفكرة ومن ثم ننتقل لشرح القانون العلمي ومعناه فهو ليس قوّة خفية!.

لنفرض أننا نريد أن نكتشف عن ما هي احتماليّة أن الكترونا في الألماس يحتل نطاق التوصيل Conduction Band وهو نطاق طاقة ذري تكون فيه الالكترونات حرة الحركة وقادرة على نقل الكهرباء. هذا النطاق أعلى من مستوى فيرمي ونطاق التكافؤ، وفجوة النطاق Energy gap لألماس هي 5 إلكترون فولت وفي ظرف درجة حرارة 300 كالفن.

قانون

سوف نستخدم قانونا كهذا لنكتشف أن النتيجة هي 10 مرفوعة لـ سالب 42 عن طريق حساب ناتج الاحتمالية فنستطيع أن نفرض أن هذا الإلكترون قد لا ينتقل لنطاق التوصيل ويمكننا أن نعتبر الألماس من خواصه العزل للكهرباء وهذه النتيجة قائمة على حساب متوسط احتمالي وليست حتمية.

إذن برهن لنا الكون أن ورود الاحتمالات أي الصدفة أمر طبيعي فهو ليس منسق ولا مبرمج ليتماشى مع كيفية معينة. هذا يذكرنا بجملة اينشتاين الشهيرة حين رفض الفيزياء الكميّة مبدئيا "إن إلهي لا يلعب النرد" غير أنه صدّق عليها لاحقا وأضاف لها جملة من الانجازات.

شئنا أم أبينا، الصدفة جزء منّا.

قد يعتقد المستمع لتلك المحاضرة أن القوانين في ذاتها محاطة بهالة من القدسية التي تمنحها الدقة والتكرار الصحيحين في جميع الأحيان، فإذا فرضنا أن الخباز كان يشير للقوانين رياضيّة فمن الواضح أن لا شيء يتحمل القدسية هنا.

فالقانون الرياضي ما هو إلا تصوّر من خلال متغيرات رياضيّة لتمثيل الظاهرة المدروسة مع الأخذ في الاعتبار شيئا من المنهجية الخاصة فالقانون قد يفرض بعد الاحتمالات أو يرفض بعضها تبعا للمجال والمدى Domain & Range  المحدد لماهية عمله وشروط قياس الظاهرة.

فعلى سبيل المثال نذكر قانون نيوتن "السقوط الحر" حيث أن نيوتن ألغى اعتبار الاحتكاك فيه لتحققه من إمكانية تجاهله ضمن "مدى" التجربة حيث يمكن الاستغناء عنها مع الحفاظ على قدر عالي من الدقة.

فقفزة فيليكس الحديثة على سبيل المثال والتي استغرقت وقتا ما لسقوطه من ذلك الارتفاع. سوف يظهر لأي شخص يطبق قانون نيوتن أن سرعة فيليكس المسجلة لدينا تختلف عن ما نتوصل له من حسابات نيوتينية وذلك أن نيوتن لم يأخذ بعين الاعتبار علوّا للسقوط كفيلكيس وفي مثل هذا العلو ستتضخم قيمة الاحتكاك ويصبح من الخطأ تجاهلها. ليس لأن قانون نيوتن لم يصمد وإنما استيعاب القانون يتطلب منا استيعاب أسسه ومدى عمله وحواجزه التجريبية وربما إدخال متغيرات أخرى لتتناسب مع ظواهر أخرى.

ولا زالت قوانين الجاذبية النيوتينية متداولة رغم أنها لا تفسر الكثير عن الجاذبية ولكن قوانين النسبية العامة لآينشتاين اكثر دقة لكنّ ذلك لا يمنع أن تعطينا قوانين نيوتن إجابات صحيحة فتصّوره ليس خاطئا. فالذكاء في القانون يكمن في استنباط القانون لا في القانون ذاته.

وأما إذا كان مقصد الخباز من كون القوانين ذكيّة ذلك أن قوانين الطبيعة حتمّية فالطبيعة نفسها أثبتت أن بعض قوانينها عكس ذلك فمثلا نعتقد أن كل اليورانيوم الذي عثر عليه على الأرض نشأ خلال انفجار سوبر نوفا التي وقعت قبل 5 مليارات سنة. وذلك حتى قبل استنتاج قوانين ميكانيكا الكم إلى مستواها الحالي، وقد طرح النشاط الإشعاعي للعناصر تحدٍ للحتميه بسبب عدم القدرة على التنبؤ به. فجرام واحد من اليورانيوم 238-، وهي مادة مشعة، تحتوي على عدد 2.5 × 10^21 من الذرات. وكل هذه الذرات متماثلة ويمكن تمييز ذلك وفقا لجميع تجارب العلم الحديثة. غير أن احتمالا في كل 12600 مرة في الثانية، ذرة واحدة في ذلك الجرام قد تتلاشى، مصدرةً جسيم ألفا. وهنا التحدي الذي تواجه به الحتمية فلماذا ومتى يحدث التلاشي، إذ لا يبدو أنها تعتمد على عوامل خارجية محفزة فالحتمية تبطل هنا لأن الذرة المعنية هنا عشوائية ولا يمكن التنبؤ بها وليست ضمن نظام ذكي.

إن معرفتنا الأوليّة تشير إلى أن الكثير من القوانين ليس ذكيا بما يكفي لينتج لنا التنبوءات.

العليّة (السببية)

فلنتحول الآن للعلية ونستعير ظاهرة البرق والرعد فنحن نرى ضوء البرق يسبق صوت الرعد لمعرفتنا الحالية المستندة للتجربة العلمية وبالرغم من أن الظاهرتين تحدثان في وقت متلازم فإن سرعة الضوء تسبق صوت الرعد. ولأن القدماء لم تكن لهم أيّة دراية تعاملوا معهما على انهما ظاهرتان متلازمتان وهكذا مع بقية الظواهر فالشروق ينجم عنه الصبح والأكل ينجم عنه الشبع والنار تنجم عنها الحرارة. واعتبروا كلا من هذا التسلسل البديهي عليّة أو سببية. وأن تسلسل العلّة يرجع إلى علته الأولى وهو الله.

وحتى لو لم تكن العلة ملازمة للمعلول فإن ذلك يحث القدماء على خلق العلة التي لا يرونها بعينها. فمثلا حين يقذف أرسطو حجرا إلى السماء فإن الحجر يعود إلى الأرض وكان بديهيا (ضمن التسلسل البديهي الفلسفي) أن يعود حيث أن الأشياء ترجع إلى أصولها والحجر ابن الأرض عاد إليها. أما قوانين الجاذبية المنبثقة من بحثها العلمي بدءا بنيوتن صنعت ضجة عارمة حيث أن بإمكانها أن تكتشف الحالة الأقرب للحدوث وليس عبر تصور أو تسلسل قد لا يتمكن في مواضع عدة من إثبات الشيء أو نفيه.

والخباز يطرح سؤالا حول من أوجد "الكائن الكمي الذري" وهنا يقصد الجسيمات الأولية الناتجة عن التموج الكمّي. ومن المعروف أن البيولوجيا البشرية تشكل عاملا في خداع فهمنا للفيزياء فكل ما يحيط بنا يحتاج لمحرك أولي فبذلك نقع بشكل لا إرادي في هذا المنطق.

فالعالم ما دون الذري مختلف تماما عن ما نتصوره نحن، هناك يمكن للجسيمات أن تنشأ بنفسها وتختفي بنفسها. وهناك للفراغ كتلة وهذا ما يفسر أن المادة السوداء تزن معظم وزن الكون. فالبروتون مثلا، يظهر وزنه المتبقي في الفراغ داخله حين أن الكواركس التي تكّونه لا تعادل وزنه الكلي. وكما كان مشروحا ضمن النظرية أن الطاقة الموجبة والسالبة تضعنا في الصفر وبعد هذا أرى أن الخباز تشابهت عليه الأصفار.

فهناك الصفر الذي يعني الصفر وهو مطلق. وهناك الصفر الاعتباطي وهو الصفر الذي يرمز عادة لمرجع ما. فالأخير لا علاقة له بصفر الطاقة الكلية. فمثلا أن تحفر حفرة في الأرض، فالتراب الذي ترفعه هو طاقة إيجابية. وبعد دقائق من الحفر يتكون لك تل من التربة وهو طاقة إيجابية. في مقابل ذلك هناك الحفرة نفسها وهي طاقة سلبية والاثنين حين نعيدهما يلغيان الطاقة وتصبح صفرا لأنها بالفعل صفرا مطلقا وليس الصفر هنا صفرا اعتباطيا كما يعتقد الخباز.

ولست متأكدا لماذا أًصر الخباز مع أن شرحه السابق يقترح حالة الصفر وتكّون الجسيمات الأولى فيه وقد عمد على استخدام قانون الاحتمالات لنسفها فإنه يذهب لأن يلغيها تماما من منطق بدائي لا يمكن اعتباره نافيا أو ثابتا لأي فكرة.

هذا المنطق يضعنا في خانة مهترئة وبشعة نوعا ما، لينتج لنا ما يعرف بإله الفراغات، حيث أن عمليات إثبات الخالق كلها محاطة بمجاهيل عوضا عن المعاليم. لأننا لا نعرف من أوجد هذا أو كيف جاء فإن الضرورة تحيلنا لأن نملأ ذاك الفراغ بالخالق وقد مارس الخباز هذا التصرف (عبر قانون الاحتمال)  حين خلص إلى نتيجة سؤاله عمّن أوجد الجسيمات الأولية في الانفجار. 

ولعدة أسباب مفصلة أجدني أتبنى نظرية التشريع الغير متداخل Non-overlapping magisteria فالدين والعلم سلطتان تتمتع كل واحدة بشرعيتها ومداها التشريعي والسلطوي الخاص و أعتقد أن هذين المجالين يجب أن لا يتقاطعان أو يتداخلان. الإيمان محله القلب والعلم يعمل لذاته العلمية وليس لهدف إثبات الخالق أو نفيه.