معرض ملامس : في حضرة الفحم أصناف الذهول

أمجاد حسن العبدالعال شبكة أم الحمام - عدسة : ميامين الحمود
عدسة : ميامين الحمود
عدسة : ميامين الحمود

 

القراءة العامة لمعرض " ملامس "

المعرض الأول للفنان المبدع ( علي الجشي ) و الذي أقيم في قاعة نادي الفنون بمركز التنمية الاجتماعية في القطيف

معرض ملامس : في حضرة الفحم أصناف الذهول
عدسة : ميامين الحمود

المقدمة : الرؤية بالعين المفردة

في ساحة من كمالٍ فني و زمانٍ وقور رحتُ أدورُ في بحر من الفحمِ المعمّمِ بالجمال حدَّ الغوص رغماً و محاولاتُ الطفو على ظهر لوحة كانت تصنعُ فناً بذاتها عوضاً عن أن تكونَ مصنوعة من فن بذاته ، فصرت ككرة في ملعب ، يركلها الزمن الدوار ، يمررها الماضي في القالب الحاضر ،  يستهويها الآتي من مرمى الغيب ، فالفنانُ وجدانٌ ينبثق كصدارة من بين أُطر ، فيصنع من لوحة زمن ، وهن ، طاعن مسن ، خيل و ميل و مجون فن ، قطرة مشتعلة ، ورقة متعرقة ، مبنى مهضوم ، حضارة انسان ، أعين ألسن ، حروب و هُدن

و هناك - حيثُ ملامس -  كنتُ سقطتُ من شجرة ، كورقة خريفية ، أجنَّها الهبوب ، فرضتْ بالتيه المدهش و التصفّع بالجدران ، كراهب حين صلاة ، ما أحب الهدوء ، كأميرة في حضرة سلطان ، فملامسٌ كان ، ممتدٌ كعشيرة ، شيخها أصيل ، زمنها واصل ، فرسانها أشداء ، و كنتُ فيه فرعٌ مشردٌ حظيَ بالآصال و الأطلال فأحبَّ الانتماء

الأزقة الورقية في زمن الماء المشتعل

لكم شدني التقاطر المانح شعوراً بالتصبب المتأتي مع دقة العروق الورقية المستخدمة كأودية ، فنثرُ الندى عطاءٌ مكثف ، و التقارب و التجانب مع الكثرة يوحي بالجمهرة الصانعة سيلاً ، فالمنحُ و إن كانت صغيرة ما أُقصيتَ عن الأثر الكبير ، و ذلك مرتبط بماهية المُعطي و مقدار المعطى ، مروراً بالصلاحية الزمنية للمبذول كعطية و المكان الأنسب لكل ذلك ، فلكل غرس مناخ و تربة تنموية.

أحببتُ المنفذ الزهري المؤدي للتفاصيل الورقية حيث العروق و الخروق و الالتواءات الجانبية ، فالبداية مهما كانت مزهرة ، مكتملة قوية ، و مهما امتلكت جاهزية أن تبقى ندية ما انصرف عنها القاضم منها ، و لا كف أذاه مريدٌ عن جانبيها – إلا بعون الله و صونه -  صانعاً بذاك خرماً كأثر ، كأذى ، كعلامة من مشين بعد شذى.

و في حين كنتُ ألهو بانزلاق القطرة من على الأرفف الورق ، كانحدار مشدوه للمسطح الجاذب ، سحبتْ عيني التفاحة المشتعلة بللاً المتقاطر نداها كشرار ، حدّ رغبتي في قضمها ، أو رميها في السلال ، أو حتى قذفها بعيداً بكل ما أوتيتُ من قوة عسى تنفلق ،  فالنار شهية في أحيان البلل ، أحيان المطر ، و الدفء ميلٌ نفسيٌ و إن ألهبَ و أتعبَ.

كيلٌ من كهولة كمعتصرات زمنية

هنا يساورني الشك ، أيمكنُ أن أصنعَ بحراً من مفردات ، من خطوط و منابت ، تجاعيد و شعرات ؟!

واقعاً النحو نحو المسنين ما كان يسيراً إنما كانَ كأسنة زمنية ، تتوزع في جسد الحاضر ، تنبت في خلاياه عفواً غيرُ مؤلم ، تتمرغ في خواصره ، تورقها كسلالات ،  كجدة تقص في حضرة الجد الحكايا ، فزمنُ الحداثة لا يلغي العراقة ، و لا البُسط تُغني عن الثنايا فلدى المشيب أغنيات العمر المنصرف ، و الجهد المنصرم ، و الزمن اللئيم ، و الكهولة حصيرة مفروشة على جمر مفترَشة بالوجع المكبوت و الألم المتوغل حد الاعتياد إلى حين استساغة ، ليتسيد الصمت كراسي الحكم اللسانية مكمماً أفواه المنددين بالآثار الزمنية على محيا العجوز المسنود بصعوبة و كاحله الملتوي ، و هوج الاكزيما لديه إثر الاحتقان الداخلي و الرطوبة الخارجية.

أحببتُ الأفواه المقوسة و ضبابية الثغور الفاغرة عن بعض عتمة في الداخل خلا من بعض لألأة ، شدني العجوز ذو الساقين المضمومتين لجذعه واحدة في استقامة كاملة ، كجبهة صامدة رغم الأخرى التي بها ميلٌ للخارج كفعل تحريضي تشخيصي أو غير تشخيصي يستدعي المقاومة بعد الرصد إثر التنبؤ.

أيضاً ، التكافؤ الحادث في حجب عين دون أخرى و ارتفاع اليد اليسرى في حين نزول اليمنى ، كحالة من التوازن عند اعتمال الصدر و اعتصار العقل و البحث عن اصطلاب في الشارع المنتكس ، و هنا تجدر الإشارة للجمال المستخرج من بروز المسام و المنابت و دقة رسم الشعرة و تلوين البثور ، حدَّ تحريك الخلية بالمجعدة و الإحساس بالترهل و العامل الزمني المؤثر على هرمية الفرد و وصوله لأرذل العمر ، فالبياض الوافر المنبثق من الأساس الطبيعي – الأسود – يوحي بالاكتساح الزمني ، و الاستعمار المشيبي الغافي جنب الليالي الأولى المستشعر زمانه رغم التولي و الصدود.

فنية التقابل الصانعة إلمام

أما الأحصنة فكانت أساطير ، و كنتُ لديها كفارس يقرأ عوذة ، رُقية حماية ، فالحروب ما تولي إنما تنجلي بعد التجلي في كائنية دورية منذ الأزل إلى أن يفتح الله ، فإن ما كنتَ فيها مطحوناً كنتَ فيها الطاحنُ.

فالعيون هناك كالقضايا المعلقة في الأمصار عبر الأعصار، فمنها المتوجس الشبه مغمض كأن يخشى المفاجأة إثر ارتفاع الجفن عن نوازل النظر ، منها الحاد الناظر من الزاوية المتوعدة المتعدي ، المهددة المتجرئ ، المنددة بالحماقة التي ترتفع عنها فتكتفي بالثرثرة البصرية إيذاناً بالفزع المصيب بهلع ، منها ما غاب من أصله جملة و تفصيلاً ، فالبعض ليسَ أهلٌ أن يرى أنكَ فعلاً تعي تدري و ترى ، و كم أحببتُ تلك المنخفضة عفواً كأن تكف النظر عمن دنا بالفعل و القول فأشبعها هماً ، فتراها تنصرف في عزة عوضاً عن البقاء الذليل ، كأنْ تستغني " فَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَ أبْقَى "

هذا هو الفن ، أن تحرك الساكن ، أن تصنع الحياة بالأدوات المجمدة ، أن تجدَ الشعورَ فوارٌ كأنَّما الفنان للتو أمامك يشرعُ يرسم ، فتقرأ أنت إيماءات الرأس و إيهامات الذراع ، النفس الصاعد كشهقة خيل يرتفع بصدره تطاولاً مستطيعاً و كزفرة آخر يحمحم في معترك النشوة ، لا ينفك عن لجة الصهيل ، لا ينزل حلمه عن صهوته.

و حيث أني لا زلتُ هناك - صوب الخيول – فقد شعرتُ بالعدو الجداري إثر تراتب الخيل الراكضة بعد النابشة و ملاحقة المستقرة أخرى صاهلة ، حدَّ قياس المتقدم عن المتقهقر ، حدَّ سماعي حمحمة و صهيل ، وثبة حافر ، ضربة قاع ، لفح من الأذناب المتحركة ، دغدغة النواصي بالشعر السابح في الهواء الملفوف بأمنية ، فلكل جولة هدف ، و في كل ميدان صائل ، و هذه الجدارية كانت كإسطبل تجد في مغناه دلالات الفروسية المُبيّنة كصراحة و المُغيّبة كمواربة.

أيضاً أحببت الصعود من اللون الأبيض حتى الأسود و ذلك عند الرغبات العنيفة ، القرارات الغير قابلة للرجعة ، و الممتد الغير مرتد البتة ، و كصناعة للمفارقة و الإلمام كان هناك نزول من الأسود حتى الأبيض كلين ، و أحيان للعفو و الخلاص ، فالمدارج اللونية مذاقات أنفس و ماهيات وجدان تتمثل في لوحة ذات تعبير رسومي لدى نشوة عند فنان ، و هي هنا تزاوج التضاد تارة بتمازج التحامي دال على الانسجام و غياب الفواصل و تلاشي الحدود و تارة من غير مداخلات فلكل مساحة و أثر ، و الحاجز الفاصل موجود.

أيضاً التراوح الواضح بين ارتفاع الرؤوس عن مستوى القوام العام كإرادة ناطحة المعيق و انخفاضها عنه كإيمان و تسليم بالقضاء الحتمي و الحال الحكيم و إن غابت حكمته عن نباهة الإنسان ، و لذا جاء في بعض أحيانه صاعداً جداً بالرأس و الصدر كنشوة وفي أخرى هابطاً جداً بذينك كركود ، متخللاً كل ذلك صور من الحالات المتوسطة التي تمنحك تعايش فئوي رغم اختلاف النمط.

أما الأطراف فكانت قضيتي ، حيث شدني خروج الجزء التخيلي من الجسم الفعلي كطرف ، فليست كل النهايات كما نشتهي أو نتصور ، ليس جميعها بيّن و صريح ، و ليست في الثبات كما نظن فثمة رياح تغيير ، و كداعم لوني للمعنى المراد بدأ الطرف قاتماً لينتهي باهتاً ، فالنزول اللوني ساحب للجهد و المساحة وصولاً إلى الشعور الختامي - إن اعتبرناهُ كهدف -  الممثل هنا بحافر ، فتجده تارة متوثب لضرب المسطح الواقف عليه ، كأنما يشج منه الرأس ، أو يفصل عنه العنق ، ليصير في أخرى مُغيباً يلوذ في عمق ما بعيد ، كهدف مدفون ، محفوظ عن الأعين و الألسن و الظنون ، مستفردٌ به ، كأحقية في التخفي و المواربة.

و مع الإمعان سنجد المسطح صارماً متسقاً متماسكاً كعدم إتاحية لتفتيش و التنبش ، أخيراً نجد هذا الهدف – الحافر –  و قد قرر  التغير عن الطبيعة المناسبة لكماله رسومياً و شعورياً إثر الخروج الشاذ عن البيئة المحيطة ، كفرع يستعيض عن أصله بصراحة ،لتكون الحظوة من نصيب الأغصان التي أشبهت العضلات المستعظمة و العروق المضخمة و المضمخة بنشوة الوصول القريب للهدف المتمثل في الحافر كنهاية للطرف.

الهندسة في القوالب المقوسة

من الأمور التي جرت أخيلتي في هذا المعرض الحاضن المقوس للخطوط المستقيمة ، و كأن المنحنى أولد ميلاً لما تنازل عن بعض المقدار الدوراني حتى إن تخلى عنه تماماً أولدَ مستقيماً يصنعُ الشتى من المباني التي كانت عموماً منبطحة ، مقاربة للأسقف ، و في ذات الحين واقفة حد الانحناء توحي لك بأنها تسقط عليك و في هذا ازدواجية ناجحة ،
فغياب التحديد يعني مرونة و المرونة تعني كثرة رؤى.

أما القوس الضام  فلا أدري إن هو إلمام للوارف الممتد كحيازة و حفظ حقوقي  و ذلك عندما أنظر ( لي ) ككائن فوقي - حالة ضم و إلمام -  ، أو هو تكالب هذا الوارف الممتد حد الخنق بالنعيق و التضييق عند النظر ( إليه ) ككائن فوقي – حالة تمرد زمجرة و محاولة إعدام.

أخيراً مناطق الفتق مقابل مناطق الرتق ، التصدع المتحدث عن الاضطهاد السكني و غياب الترميم ، الشقوق الصارخة في الجدران المعتقة تبحث طبيباً يسد نزف الجراحات بحفنة قطن ، فالمبنى المجروح مقابل المبنى السليم يصنع حسرة ، طبقية و تحزب ، فلكل داء دواء ، و الكل يستحق العيش بسلامة و سلام.

ختاماً

عصيٌ جداً على ناشئ مثلي أن يلم بمفرداته خمسين نهراً دافقَ الألق و القلق ، مختصراً الدور الزماني في خواصر اللوحات المعلقة كأدمع جدارية تخشبت على إثر مرارتها الأعين فهناك سمعتُ التناهيد التترى ، و الآهات الكثرة حدَّ شعوري باكتظاظ المكان ، شعرتُ بضمور المفردة اللائقة و غياب النباهة اللغوية في حضرة اللوحة المتحدثة بطلاقة رغم الخرس البائن كتمويه.

فاللوحة المصنوعة من ألف شعور تصنع ألف شعور من لوحة

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
علي الجشي
[ السعودية - القطيف ]: 20 / 2 / 2012م - 10:57 م
فرأت المقال كاملا واشكرك كل الشكر اخت امجاد فأنت تجيدين الضرب بالقلم والتلوين بالفرشاة كلمات جعلتني اسيرا وانا مغمض العينين وكأني في غابة زاخره بمكونات الطبيعة دون ان ادري هل الطريق ينتهي ام لا
اتمنى لك التوفيق والنجاح
2
دعاء العبدالعال
[ من الجوآر - أم الحمام ]: 22 / 2 / 2012م - 1:36 م
إيهٍ لحرفك يَ ابنت العآل
وهو يضج بعنفوآن
وأيهآ تلك المفردآت التي أخذتني نحو خيآلِ مزدحمٌ بالحروب تآرة وتارة أرضٌ اكتست بأورآق الخريف الجآف ..
أرآكِ بأسلوبك كذلك الخيل الذي أستهوآك وصفاً مغزولاً بالشجآعة

أنتي فنآنة حقاً حين رأيتي كل ذلك في مُجمع لوحآت ..

علي ،، هنيئاً لك تلك الرسمآت التي أستوحت من فكر الحروف بحراً هآئجاً من الكلمآت ..

بُوركتمآ لكل خير ..
فقط مررت وأحببت أن أطبع بصمة مروري كـ ذكرى ..