التحول التركي ذروة الاصطفافات !

 

 

مرت السياسة الخارجية لتركيا بسنوات من الاستقرار والنمو بقيادة الإسلاميين الليبراليين في حزب العدالة والتنمية. أزدهر فيها الاقتصاد التركي بمعدلات نمو أقر بها خصومهم في الداخل والخارج.

نجحوا في تمرير نظرية "تصفير المشاكل" مع جميع جيرانهم ومحيطهم الجغرافي والسياسي. تحولوا إلى نموذج متقدم في مواقفهم السياسية تجاه إسرائيل أعجب القريب والبعيد في العالمين العربي والإسلامي بخاصة في فترتي الحرب الإسرائيلية الأخيرتين ضد لبنان "حزب الله" ثم ضد غزة "حماس".

بيد أنها تأثرت بتسونامي الربيع العربي منذ مطلع هذا العام. حينها، حار المراقبون بين ثبات التوجهات التركية على تلك السياسة أو تغييرها أو تعديلها.

أما اليوم فقد رجحت كفة الهوى العثماني للدولة والهوية التركية ولكنه ليس على حساب الهوية العلمانية، لأن ما بينهما من قرابة لا ترجح الطلاق فيما بينهما في الفترة الحالية. يقال أن خلافاً قد نشب بين أقطاب السياسة التركية، حول دور وموقف تركيا من الثورات العربية لاسيما سوريا، قاده منظرها ووزير خارجيتها أحمد داود أوغلو صاحب نظرية "تصفير المشاكل" المشروحة في كتابه (العمق الإستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية).

لا يمكن التصديق أو التسليم بأن الوقوف مع الشعوب في ثوراتها هو ثابت في السياسة الخارجية لتركيا، لو صح ذلك لوجدنا تمظهرات لهذه السياسة ومؤشرات مختلفة تجاه مجريات وتطورات الأحداث اليومية للثورة اليمنية والانتفاضة البحرينية. يتذكر الجميع مواقف تركيا من ثورة الربيع المصري ثم الليبي، وكيف كانت تركيا تتردد بين الاستمرار في تأييد النظام القائم أو تأييد الثوار الجدد. كلما مالت الكفة ميدانياً لصالح الشارع تحول التأييد إلى دعم، وكلما صعد سقف مطالب الثوار وتقدمهم تحول الدعم التركي إلى مساندة لإسقاط النظام السابق.

هناك وجه تركي أخر أطل على السياسة الخارجية لتركيا، لم يصمت كما هو تجاه اليمن والبحرين، ولم يتدرج بسلاسة كما جاء تجاه التطورات في ليبيا، وإنما انقلب بزاوية حادة فاجأ بها العالم تجاه تطورات الأحداث في سوريا. استضافت تركيا أقطاب المعارضة السورية مرات عدة، تحالفت مع باريس والدوحة حتى نجحت في تشكيل المجلس الوطني السوري، أقامت مناورات عسكرية قرب الحدود السورية، بل تطابقت المواقف التركية مع المواقف الأمريكية تجاه سوريا.

يقال بأن واشنطن وعدت أنقرة بالوقوف معها ودعمها تجاه قبول الاتحاد الأوربي لدخولها كعضو فيه.

لا نأتي بجديد عندما نقول بأن جذور أقطاب الحكومة التركية، عبد الله غول، أردوغان، أوغلو، جميعهم جاؤوا من حاضنة إسلامية تميل إلى الاخوانية في الهوى الديني، ولكنها تختلف معها في الهوى السياسي. بالتالي هم يمثلون أنموذجاً سنياً لإدارة الحكم على قاعدة دينية تحاول أن تحترف العمل السياسي. هذا لا ينفي تلك الميول العثمانية ذات الطابع السني الراغب في الهيمنة والسيطرة.

بيد أن النموذج التركي الجديد استطاع أن يبهر الداني والقاصي بفاعليته وبراغماتيته، يتبنى التحالف مع إسرائيل كامتداد لتحالف العسكر التركي معها، ثم ينتهز الفرصة لينقض عليها. يتحالف مع سوريا الدولة، وينقض عليها مع أول إشارات تحرك الشارع الدولي ضدها.

هذا المسار السياسي لحكومة حزب العدالة والتنمية بخاصة مواقفه الأخيرة عندما دفع وشجع الإسلاميين من أخوان مصر للقبول بعلمانية الدولة وعدم الإيمان بالعلمانية، وهو ما كرره أردوغان في زيارته لمصر وليبيا وتونس، شجع الغربيين إجمالاً لتكون تركيا اليوم هي أنموذج للحكم الإسلامي السني الديمقراطي في العالم الإسلامي، وهو توجه لا يخلو من نكهة الاصطفاف الطائفي، وإن زعم غير ذلك، فالمنطقة مشحونة بالاصطفافات والاصطفافات المضادة.

أذن هو أكبر من تحول عادي سينعكس على أوضاع مجمل المنطقة. فلنراقبه جيداً.

كاتب وباحث