الإنترنت أفيون المعرفة

 

الأفيون، باعتباره مادة مخدرة تسبب الإدمان وتذهب العقل، بالتأكيد شر وهلاك ووبال ودمار ... والعياذ بالله منه، وهو بوابة الرذيلة والمخازي والعار والإجرام ... حمانا الله وإياكم منه ومن شره. وأسوأ ما فيه طبعاً، أنه من نوع الشر الذي يمكن أن يقال، أنه قد لا يمكن الخلاص منه ... فمعه يصدق المثل المصري: (دخول الحمَّام مش زي خروجه).

وإذا، كان الحمَّام مجتمعاً للقذارات والأوساخ، فالمثل هنا ملائم تماماً، ومناسب جداً. فالأفيون كذلك بالمثل، مجتمع للأوساخ والشر والضر. ومع ذلك، فالفرق واضح ٌهنا جداً كذلك. فالحمَّام أو بيت الخلاء، تدخله وأنت مهموم ومثقل من أعباء الحياة، للراحة والخلاص من القذارات والنجاسات، فتخرج منه قرير العين بذلك الخلاص، مرتاح البال، أو على أقل تقدير، ستخرج منه كما دخلت إذا شاء الله. وهذا في غالب الأحوال طبعاً. أما من يدخل حقل أو مجال الأفيون والمخدرات، فلن يمكنه الخروج غالباً، إلا بالشر وباكتساب الرذائل والقذارات ... كفانا الله وإياكم شر ذلك كله.

لكن هذا، ليس هو محور حديثنا هنا طبعاً، ولا سبب ذكر الأفيون هنا في عنوان هذا الموضوع، فالسبب مختلف تماماً، وهنا سيحق لكم طبعاً أن تسألوني عن، ماهية ذلك السبب؟!.

وأنا سأجيب هنا بوضوحٍ تام، فالقصة قديمة جداً، قدم أيام الجامعة، أقصد عندما كنت (أنا) طالباً جامعياً مغترباً مسكيناً، كأي طالبٍ جامعي مغتربٍ مسكينٍ في حينه، في جامعة الملك سعود بالرياض. وحينها كنت كاتباً صغيراً، أرسل مقالاتي لأنشرها بأسماء مستعارة - أحياناً - في "رسالة الجامعة"، التابعة لجامعة الملك سعود، في ذلك الوقت، قبل أن تفد علينا أجهزة الاتصالات اللاسلكية الحديثة وشبكات الإنترنت والفضائيات، حين كنا لا نتصل بأهلنا إلا عبر تلفون (أبو نص ريال)، المصطفة كبائنه في الشارع، ولا نلتقي بأهلنا في حينه إلا في نهاية الأسبوع، إذا قدر الله. وكنت حينها أبحث عن الخلطة السحرية العجيبة الفعالة، تلك التي ستدفع غيري، وهم إخوتي الأصغر سناً مني، وبعضهم لم يكن قد دخل المدرسة بعد، باتجاه التعلق بالمعرفة والعلم، بل إدمان تلك العلاقة وعدم القدرة على الخلاص منها، كي أتمكن من خلق الإبداع والتميز والروح المتعلمة الوثابة للعلم والمعرفة والفهم.

وحينها توصلت لخلطة غريبة عجيبة، ذات مفعول قوي جداً، وسحر لا ينتهي ولا ينضب. فالعلاقة مع المعرفة ومع الكتاب، هي كما علمتني إيها الحياة، حين مَارَسَتْ سحرها علي، في المراحل المبكرة من عمري، فطبقت علي تلك الخلطة العجيبة، في مرحلة امتدت، من سن الطفولة والمرحلة الابتدائية، حتى سن المراهقة وبدايات الثانوية، دون أن أشعر، وهي علاقة حب وإعجاب وانبهار قديمة وممتدة لا تنقطع، بل تزهر وتورق وترسل جاذبيتها وروائحها وأريجها العبق في الفضاء في كل يوم، وكل أسبوع، وكل شهر، وكل سنة، لتحاصر العمر كله وتحصره، في عبقها، فتنبت فينا حبها والرغبة فيها، ثم ثمرتها، وهي الإبداع.

وهنا، كان ما مارسته مع إخوتي الأصغر مني سناً، مجموعة آخر العنقود، كما يمكن أن نقول، هو استنساخ لتجربتي السابقة وتطوير لها، وهو ما ذكرته في مقالة قديمة سابقة لي حول القراءة، عنونتها في حينه بـ (قصتي مع القراءة)، وكان ذلك كذلك ممتداً ودائماً وحماسياً ومثيراً، بدأ في مراحل مبكرة، أي قبل سن المدرسة، وامتد، ثم امتد، فكان البرنامج شهرياً بل وأسبوعياً أحياناً، وامتد لسنوات طويلة، وصلت المرحلة الابتدائية بالثانوية، وكان فيها ذلك البرنامج: قصصياً وروائياً وعلمياً وفنياً ... الخ، بما ناسب سنهم طبعاً ... من أدوات التشويق ... وقد نجحت الخطة أو الخلطة ... الخ، وكفى.

وخلاصة الفكرة هنا، هي أننا لكي ننجح في الحصول على الإبداع من الأطفال، فيجب أن نعتمد برامج من هذا النوع، شيقة رشيقة - رخيصة الثمن، قليلة الكلفة، ما أمكن - معرفية طويلة وممتدة، تركز بشكل أساسي على خلق وتفجير المشاعر والرغبات، تجاه تلك الأشياء الحسنة والممتازة، المستهدفة من قبلنا.

وفي الماضي، فقد كانت القصة والحكاية المكتوبة والرسوم المصورة والكتيبات العلمية المصورة ... الخ، هي الأدوات المناسبة لذلك. وهذا ما كتبت عنه وأوضحته فيما سبق، واعتمد مبدأ صناعة الرغبة وتعزيز الميول، من خلال المطبوعات الورقية القصصية والتعليمية والعلمية المصورة والشيقة. لكننا اليوم بتنا أمام واقعٍ مختلفٍ تماماً، فقد غزتنا، الفضائيات وقنوات الأطفال التي لا تغلق طوال الـ (24) ساعة، وانحسر دور المجلة والقصة والرواية والكتاب، بفعل أدوات الترفيه الحديثة، وبسبب غلاء أسعار القصص المصورة، ومجلات الأطفال، والتي كان بعضها يباع في الماضي، بريال أو ريالين فقط، وقد تصل غالية الثمن منها في حينه لستة ريالات فحسب، وهو خلاف واقع اليوم طبعاً، حتى أوشكت تلك الأدوات أن تنتهي وتنقرض ... فرحم الله ذلك الحال وتلك الأيام وذلك الزمان، الذي مكننا من إدمان القراءة، والقدرة على الاستمتاع يومياً وأسبوعياً، بكمٍ هائلٍ، من قصص الأطفال، وكتيباتهم العلمية المصورة.

وهذا الذي ذكرناه سابقاً، لا يعني أن أدوات إدمان العلم والثقافة والمعرفة، قد انحسرت، بل هي في الحقيقة فقط قد تغيرت وتطورت، فتقدمت آلاف الأميال، بل أكثر من ذلك بكثير، فمن منا لا يعرف اليوم، أن كثيراً من الأطفال والنساء والرجال والشباب والشيبان والكهول قد أصبحوا اليوم، لا يصبحون ولا يمسون، إلا وهم يعبثون بأجهزة وأدوات عصرية متصلة بالإنترنت، وبالتالي فهم يمارسون عادات القراءة والاتصال بالمعرفة ... في حالة دفعت الكثيرين منا، للخشية من ارتباط تلك الحالة القوية جداً، بحالة من الأمراض، يمكن أن توصف بأنها من أصناف الإدمان الخطيرة.

وهنا، فمن منا لم يسمع اليوم، بمصطلح ما يسمونه بـ (إدمان الإنترنت)، وكذا من منا لم يسمع اليوم، بـ (إدمان المواقع الاجتماعية) ... كالفيسبوك وتويتر ... وفوق هذا فربما تكون هناك صور أخرى لإدمان الفضاء الإلكتروني الافتراضي، التي قد لا نعلمها نحن اليوم جيداً، أو لا نلتفت لها كثيراً، كـ (إدمان اليوتيوب) مثلاً، وهذه حالات ربما تكون إيجابية في الغالب، وأنا من وجهة نظري الشخصية، لا استبعد ذلك، بل أعتقد ذلك بقوة، وإن تخلل تصفح تلك المواقع الإلكترونية المفتوحة بالطبع وبلا شك، بعض الإشكالات، والمشاكل الأخلاقية، إلا أن تلك المواقع بلا شك، مشحونة بالكثير من الأفكار والعلوم والمعارف النافعة والمنتجة ،التي قد تطغى على معظم السلبيات غالباً ... وهذا ما قد يفسر رواجها بيننا، وقبولنا بها بشكلٍ واسع وممتد، في مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية.

ولقد ظهرت آثار تلك الثورة المعرفية الرقمية المعاصرة على شباب اليوم، في مختلف المجالات، ولازال الكثير من آثارها قادماً نحونا، ولقد كان ذلك واضحاً جداً في الثورات والتظاهرات العربية المعاصرة، هذا بغض النظر طبعاً عن تقييمنا لصحة أو خطأ تلك الثورات والتظاهرات العربية في مختلف البلدان، لكن الدلالات واضحة تماماً، فالوعي والفكر والنضج والمعرفة البشرية المعاصرة، باتت تتقدم اليوم في ساحة العالم المعاصر بسرعة فائقة ومذهلة ... بل ولازلنا حتى اللحظة الراهنة في البدايات، بل ربما في بدايات البدايات، وما سنشهده سيكون - إن شاء الله - مختلفاً تماماً ورائعاً ومبهراً ومذهلاً، خصوصاً في تلك المجتمعات الريفية والبدوية المتأخرة - إن جاز التعبير -، خصوصاً إذا ما نجحنا في تلافي خدع وفتن وخبائث الاستعمار، وإشغال تلك الدول المستعمرة والمفتنة لنا، عن التنمية، وعن حفظ أوطاننا، بالحروب والصراع والدمار.

وما أريد قوله هنا، هو أن الإنترنت، والأجهزة الرقمية المستعرضة للمعرفة، قد باتت اليوم، هي البديل الشرعي والمنطقي، للقصة والرواية والكتاب الورقي المصور، القادر على خلق (إدمان إيجابي) محفز ومنتج، للرغبات القيمة والفاعلة، خصوصاً لدى الناشئة والأطفال، يمكنه أن يدفعهم لطلب الفكر والعلم والثقافة والمعرفة بشغف وشوق وجدية فاعلة ... وصولاً من حالات الاكتساب المعرفية والعلمية الجادة ... لحالات الفعل والتميز والابتكار والإبداع.

والكلام ليس هنا في هذه النقطة، حول ما تقدمه الإنترنت وأدوات المعرفة الرقمية لنا في هذا العصر بشكل تلقائي وعفوي وعشوائي، فحسب، بل القضية تكمن أكثر من ذلك، في تساؤلنا حول ما هية تلك الطريقة المناسبة للاستفادة والإفادة من تلك الأدوات المعاصرة بالطريقة النافعة الفضلى والقصوى.

والجواب هنا، راجع طبعاً لطبيعة تلك المواقع الإلكترونية المتميزة والمثمرة، التي يمكن أن نبدعها ونقدمها وننجح في ترويجها، لأبنائنا في الأجيال المعاصرة، أو على أقل تقدير، قدرتنا على ترويج ما هو مفيد ونافع، أو على الأقل قدرتنا على تقليص مساحات استخدام الناس عموماً والأطفال خصوصاً، لما هو سلبي وغير نافع، أو فيه هدرٌ للكثير من الجهد والوقت، عبر أية طرق توجيهية أو رقابية مبدعة ومبتكرة.

والقضية هنا متشعبة، وذات شجون - كما يقولون -، وأنا من ناحيتي، لن أستغرب من موقع اجتماعي كالفيسبوك مثلاً، عندما يتجمع فيه مجموعة من الأصدقاء من هواة الرسم، فيصبحوا بعد سنوات نتيجة تجمعهم هذا، فنانين تشكيليين ورسامين مبدعين، ولن أستغرب أيضاً، لو تجمع محبوا القصص والروايات، أن يصبحوا قصاصاً وروائيين ممتازين، ولن أستغرب كذلك، لو تجمع محبوا كرة القدم، أن يقودهم تجمعهم هذا في النهاية، لأن يصبحوا نجوماً كرويين ... وهكذا ... إلى آخر تلك القائمة. وخلاصة القول هنا، هي أن الإنترنت، إبداع مستمر بلا حدود، و(إدمان) يجب أن نتعلم جميعاً فيه ومعه، كيف نستثمره ونستفيد منه، بدل التوقف عنده فقط محذرين منه ومنذرين. ولو رجعنا لواقعنا اليوم، فسنجد أن (شبكات النت) تلك، قد خلقت لنا اليوم، كثيراً من المبدعين و(المدونين والكتاب الرقميين) الرائعين، في الوقت الراهن، وهذا خير شاهد وخير دليل، على صحة كلامنا السابق هنا.

وقبل أن أختم هنا، اسمحوا لي، أن أعرج على موضوعٍ حساسٍ، هو موضوع مدارسنا المركوسة المنكوسة المعفوسة - والموضوع هنا، ليست له علاقة طبعاً، بموسى كوسا ولا بعمر سليمان ولا بعمر موسى -، تلك التي لم تستفد بمكتباتها المدرسية البائسة الفقيرة، ومناهجها المملة وغير الشيقة، من فترة القصة والحكاية المكتوبة والكتاب المصور، التي مرت وشارفت على نهايتها، في خلق جيل قارئ، عاشق للقراءة والكتاب والعلم والمعرفة، إلا ما رحم ربي، والتي لا تريد أيضاً، أن تستفيد حتى اليوم، وربما لا تستفيد أبداً، من الإنترنت والطاقات الرقمية، بالطريقة الفعالة والمناسبة. فماذا بالله عليكم يضر لو نجحت بعض تلك المدارس - عبر برامج مدعومة طبعاً - عبر بضعة ملايين أو حتى بضعة مليارات، في خلق بيئة مدرسية، تعتمد التقنية، وتمتلك شبكات رقمية وبيئات تعليمية داخلية افتراضية مغلقة، مشحونة بمخزون هائل من كل أصناف ما هو شيق ومفيد وعلمي ومعرفي ونافع، كمقاطع الفيديو التعليمية والعلمية، وكصفحات القصص والحكايات الرسومية التعليمية الرقمية، وكمنتديات الطلاب وملتقيات الحوار المدرسية الداخلية الخاصة الهادفة، وكبرامج التواصل مع المعلمين والتفاعل معهم، وكصفحات الواقع الافتراضي التي تسمح بإجراء التجارب العلمية الافتراضية ... الخ، وهكذا؟؟؟!!!.

وماذا، لو خصص لذلك، عدة ساعات في الأسبوع، أي عدة حصص، يجوب فيها الطلاب ذلك الفضاء التعليمي الإلكتروني الافتراضي، المحصن والموجه من قبل إدارات وقيادات التعليم، حتى تشتد تلك الأعواد الصغيرة، فتنمو وتصبح عاشقة ومحبة للعلم وللمعرفة، لتؤتي في النهاية ثمارها، وأطيب نتيجة، بدل إلقاء اللوم فقط على المعلمين؟!!!.

وأنا لا أدري في النهاية، أهي مشكلة تخطيط؟؟؟!!! أم مشكلة أموال؟؟؟!!! أم مشكلة واقع؟؟؟!!! أم مشكلة عقول؟؟؟!!!، أم كل ذلك مجتمعاً، أم ماذا؟؟؟!!!.

هذا وأسأل الله، لي ولكم، العفو عني وعنكم، وعن كل المؤمنين، وعن مدمني ذلك الفضاء الإلكتروني ... ودعائي لكم جميعاً وللوطن الغالي بالتوفيق ... واستثمارات حسنة ومباركة ... إن شاء الله ... وسلامتكم.

نشرت هذه المقالة في العدد السادس (رمضان 1432 هـ) من مجلة الخَط.