في منزل الأستاذ فؤاد نصر الله ... كان الجو مختلفاً تماماً

 

بعيداً، عن صخب ذلك الشارع  الهادر، الذي قد لا يجر علينا وعلى الوطن والأمة، إلا الكثير من المصائب والويلات والنكبات، في الوقت الذي قد لا تنشد فيه تلك الجماهير المسكينة البريئة - طبعاً -، النازلة للشارع، سوى رفعة وإصلاح هذا الوطن الغالي، لكن ربما بسبب بعد الكثير من تلك الجماهير، عن الخبرة المطلوبة والحنكة والحكمة والوعي والنضج السياسي والحياتي الكافي، اللازمة لفهم طبيعة وأبعاد السياسة والحياة العامة وتعقيداتها، فبالتالي قد يؤدي ذلك لأن تخطيء تلك الجماهير بالتالي المسارات، فتتجه في اتجاهات ضارة خاطئة.

وبعيداً كذلك، عن تلك المنابر الدينية التقليدية، التي تستعدي الآخر، ولا تتقن عبر خطابها القشري التقليدي، الفاقد لمقاصد الشريعة والنبوة ومضامينها، إلا الغواية، والعبث بقضايانا الحياتية والمعيشية المعاصرة، بدل الهداية والإصلاح والتنمية الهادفة، حيث ذلك ما لا يمكن أن يؤدي إليه ذلك الخطاب الديني التقليدي المتخلف، الذي لا يتقن قراءة واقعه السياسي والاجتماعي المعاصر، ولا يتقن البت في قضاياه، بل إن حديثه عن ذلك الواقع السياسي والوطني الحياتي، كان ولازال من عاداته، حتى يومنا المعاصر هذا، أن يجلب لنا أو علينا، الكثير من الشبهات والإشكالات والمآزق والويلات، وأن يراكم علينا الاتهامات، وأن يكدس الاحتقانات، بسبب ارتهانه لعقلية أسيرة للتفكير في الميتافيزيقيا أو الماورائيات، التي أورثها إياه ذلك الغلو في بعض قضايا الدين وتشريعاته، ولبعده كذلك عن فهم فحوى ومقتضى النصوص الدينية، القابعة حول المصالح الفردية والعامة وفي تلافيف ذلك العقل النبوي والنوراني.

وبعيداً أيضاً، عن كل خطابٍ حقوقيٍ حماسي عاطفي، غير واعٍ وغير ناضجٍ، ينظر للحقوق بعين عوراء، أو واحدة مجتزئة، تنظر للحق بمفرده، ولا تنظر له ضمن حيثيات الواقع، ومداه وإمكاناته، وقد يؤجج في لحظاته العاطفية، من حيث لا يدري، تلك الطائفية المريضة القابعة فينا، التي نعرفها، فيغفل عن خطر انتشار شرها وشررها، عبر المجتمع المسكين الهادئ والآمن والمطمئن - رغم آلامه -، عبر ما قد تلوكه تلك الألسن الحقوقية المتحمسة في مجتمع مراهق حقوقياً، من كلمات حقة أو باطلة، لا تزيد الواقع، إلا سوأً وتخبطاً ومرضاً ومرارة ... ولعل ذلك جزءٌ من ضريبة السير في رحلة التكامل.

 وبعيداً بالإضافة لذلك، عن كثيرٍ من تلك الأشياء، التي قد تفقد حراكنا الشيعي الوطني قيمته ومنطقيته وصحته ... الخ، فقد كان هناك فعلاً، حديثٌ مميزٌ جداً، بل حديثٌ رائعٌ ومبدعٌ وواعٍ وواعد كثيراً، في الأيام القليلة الماضية، في قطيفنا الغالية، ألقاه الأستاذ المميز والرائع والناضج/ الأستاذ مؤيد القريش، في ملتقى حوار الحضارات، بمنزل ذلك الإنسان الوطني الرائع المهموم بمصلحة ورفعة وطنه وشعبه وأمته، الأستاذ الفاضل الإعلامي والصحفي والناشط المعروف/ فؤاد نصر الله ... وهو مدح لا شك إن شاء الله كائنٌ لكلاهما في محله.

وكان ذلك الحديث، في ندوة خصصت للنقاش في موضوعٍ من أهم المواضيع المحلية المعاصرة، التي تشغل الساحة الشيعية القطيفية اليوم، وكان ذلك تحت عنوان: (حدودنا الإدارية ... بين الواقع والخيال).

وهنا في هذه الندوة تحديداً، كان الحديث، ناضجاً واعياً راقياً دقيقاً، يعتمد المنطق، ولغة الأرقام والإحصاءات والتحليلات، تلك التي تغيب عنا كثيراً، في مشهد التفكير في مجتمعاتنا المحلية، بل وفي بقية مجتمعات عالمنا العربي والإسلامي، على عكس ما نشهده في كثيرٍ من نقاشات المجتمعات الغربية المتحضرة، كما كان مختزناً - أيضاً - للكثير من الوطنية والتأكيد عليها، وعلى الانتماء والإخلاص لهذا الوطن، وابتعد كثيراً - كذلك - عن ذلك الخطاب وعن تلك اللغة الدينية الطائفية المأزومة، التي نعرفها جميعاً، والتي يتقنها البعض منا، والتي طالما خلقت لنا الكثير من المشكلات، وأعاقت التواصل والتفاهم وصناعة الجسور، وتقاسم المصالح، بيننا وبين الآخر، على قواعد الحياة الطبيعية المعروفة والمنتشرة في هذه الحياة، عبر قواعدها المصلحية الحقيقية الأصيلة، بين أبناء الوطن الواحد، وقواه المتنوعة.

وفوق هذا، فيمكن التأكيد هنا كذلك، على أن المحاضر كان متمكناً جداً، حيث استخدم أفضل أسلوب، وكانت طريقة وأدوات العرض لديه، طريقة وأدوات عصرية، محفوفة ومدعومة بالإيمان والحماسة والقناعة بقضيته محل النقاش هنا، وكذا كانت الأدوات والطريقة، في غاية الوضوح والروعة والتشويق والتوفيق، وهو أمر رائع وإيجابي وجيد جداً، يجب أن يحتذى في بقية الندوات والخطابات العامة والخطب والمحاضرات ... المعاصرة ... فهذه هي أدوات ولغة العصر، التي يجب أن نتقنها وأن نفعِّلها ... وكفى.

لقد كانت هذه الندوة فعلاً، ندوة من النوع المهم والمميز جداً، الذي ننشده ونحتاجه  كثيراً، لوعينا ووعي مجتمعنا القطيفي، بل وتحتاج مثيله، بقية المجتمعات الشيعية الخليجية، بل وغير الشيعية، فهي ندوة وطنية إصلاحية واقعية صانعة للوحدة والوعي بكل جدارة ... فهي تتحدث عن الإصلاح عبر خطاب آخر مختلف تماماً عن تلك الخطب الدينية والعاطفية العصماء والعمياء.

إن مثل هذه الندوات، التي تزخر بهذا القدر من الوعي، وبهذا القدر من الحس الوطني، وبهذا القدر من الواقعية والتحليل المنطقي الواقعي، يمكنها أن تغير تاريخ الممارسات الشيعية السياسية، التي غلبت عليها في الماضي، الحماسة والعواطف الدينية، بأن تصنع منا مواطنين واعين، يسعون لخدمة مصالحهم وقضاياهم الوطنية والحقوقية، بذكاء وحكمة وحنكة، عبر الفكر والعلم والمنطق، والحوار الهادئ، والوعي الملتزم والمسؤول، وعبر التفاهم والتواصل والعلاقات الإيجابية البناءة الممتدة مع المسؤولين وصناع القرار، التي تنطلق من منطلقات الواقع، باتجاه البحث عن مسارات الازدهار والخلاص من التشنجات والمآزق، بعيداً عن الفوضى والعواطف، وبعيداً عن الانجرار خلف أية أجندات خارجية متهمة أو مشغولة بالبحث عن مصالحها المشبوهة، وبعيداً عن إتاحة أية فرصة لأيٍ من العازفين على تلك الأوتار الطائفية النتنة الغبية المعروفة.

وفي الأخير هنا، فإن وجود طاقات شبابية ناضجة واعية فاعلة، كتلك التي قدمت وأخرجت لنا، ندوة (حدودنا الإدارية ... بين الواقع والخيال)، لشيءٌ مبهجٌ ومفرحٌ بحد ذاته، ينبئ عن عقلية عصرية جادة، تتواجد بيننا، ويدعونا - حقاً - للأمل والفخر، وإن كان الفخر بحاجة للعمل، ويضع لنا أو على كواهلنا مسؤوليات جسام ثقال، تتطلب منا أداء واجبات المساندة والشكر والدعم ... كلٌ منا بما يستطيع طبعاً ... ولو بالكلمة الطيبة فحسب ... فلهؤلاء الوطنيون الشرفاء العاملون والمضحون ... منا هنا كل الثناء ... وجزيل الشكر ... والسلام.