رجل الدين والدور المطلوب

حسين أحمد بزبوز

لا يمكن لأي عاقلٍ من العقلاء أبداً، مهما كان موقفه من العقائد الروحية، ومن رجال الدين، أن يكون منكراً لاحتياجات البشر الطبيعية. ولا أن يتجاهل تلك الجوانب العاطفية والروحية والنفسية، البعيدة كل البعد عن الحسابات المادية لبني الإنسان ... كل الإنسان ... في كل مكان. التي أودعها الله سبحانه وتعالى في نفس الإنسان. وهذا لا يعني طبعاً من الجهة الأخرى، أن نتجاهل ضرورات النقد وحاجاته العقلية والواقعية.

ومن هنا، فسأنطلق هنا للقول بوضوح أكثر، أن الواقع الذي يفرض نقض الخرافات الدينية، يفرض أيضاً ضرورة الحكمة والعقلانية في التعاطي مع مختلف الأديان، ومختلف المتعبدين بها، أثناء عمليات النقد لها. إذ لا يمكن لأي عاقلٍ من العقلاء، أياً كان لونه وجنسه وتوجهه، ومهما كانت مساحة تجاوزات العقل والمنطق، في أي دين أو عقيدة روحية يتبناها أو يعيشها أو يعايشها أو يناقشها ويهتم بها، هو ومجموع من يحيطون به من الناس، ضمن البيئة والكتلة الاجتماعية، أن يتخذ من أي انحراف عن العقل والمنطق، في أحضان ذلك الدين أو تلك العقيدة، ذريعة تشرع التجاهل والتجاوز لتلك الحاجات الروحية والنفسية لبني الإنسان، التي تشبعها العقيدة الروحية، والتي تدفع البشر نحو العبادة والإيمان وممارسة الطقوس الروحية، وذلك بمجرد وجود الخرافات والمغالطات المنطقية، في غفلة أو تغافلٍ تامٍ من الفرد الناقد، عن أن تلك الحاجات النفسية والروحية، إنما هي حاجات حقيقية ثابتة، وليدة الحياة نفسها، وعلى إثرها في الحقيقة، ظهرت ونبتت ونشأت وتنوعت الأديان والشعائر والطقوس والعبادات، السماوية وغير السماوية، التي يجب احترامها والتعامل معها بموضوعية تامة. وهذا لا يعني طبعاً، أن يتحول جميع المصلحين في الأرض، لقادة روحيين، أو مصلحين مداهنين مرنين وناقدين متريثين.

وهنا، لو تدبرنا في مختلف العقائد والمذاهب والأديان، بغض النظر عن قضية الصواب والخطأ والصدق والكذب، وبغض النظر عن منشأ تلك الأديان ومبعثها، فإنها جميعاً في النهاية بلا شك، تشكل حالات روحية وانفعالات عاطفية، هي حتماً، أداة حقيقية لبعث وتحقيق شيءٍ ضروري وهام ومطلوب من النشوة والطمأنينة والسكينة والهدوء والإشباع النفسي والروحي، لقلب الإنسان الباحث عن الحقيقة أو الحقائق المبهمة، في هذا الكون والعالم الغامض والمبهم في كثيرٍ من جوانبه، وعن قيمته ووجوده وكينونته ومصيره في هذه الحياة وما بعدها. وهذا ما يدل عليه واقع مختلف البشر عبر العالم، وحالاتهم النفسية والروحية، وانفعالاتهم العاطفية المختلفة، الواضحة في مختلف دور العبادة، حول كرتنا الأرضية العامرة بأنواع العبادات المختلفة. وذلك الإشباع رغم أنه قد يتفاوت بقوة في الحقيقة، فيظهر بنسب مختلفة ومتفاوتة في نفوس الناس من خلال الأديان والمذاهب المختلفة، في اختلافٍ قد لا يتكئ غالباً بشكلٍ رئيسي - كما أحسب - إلا على توازن الدين مع العقل والمنطق والحقائق والمعارف البشرية العلمية والمنطقية اليقينية أو شبه اليقينية، الراسخة في حياة وعقول الناس، والمرتبطة بحدود الزمان والمكان، اللذين  يعيشهما المجتمع طبعاً، إلا أن ذلك الإشباع سيبقى حاضراً دون ريب ودون شك، في كل عقيدة روحية، مهما كانت خرافية أو زائفة، شريطة بقاء تمسك الفرد بها وتصديقها، أو على الأقل تمسكه بممارستها ومزاولتها في حياته الواقعية.

ومن هنا، فإنني مقتنع تماماً، أن تلك الطمأنينة الروحية الناتجة عن التهجد والصلاة والعبادة - أياً كان نوعها -، ليست مجرد هبة إلهية خاصة لأصحاب دين بعينه، كما يعتقد بعض المؤمنين، أو لأصحاب العقائد الروحية والأديان فحسب. بل هي هبة إلهية شاملة لكل البشر. حتى من لا يؤمن إلا بوجود خالقٍ ما، غير معروف لهذه الحياة. ممن لا يطرق باب الأديان، إلا بيد التعويض الروحي، عن ما يصيبه جراء نقصه المادي وضعفه العاطفي. وممن لا يطرق باب الأديان إلا بيد رجائه للخلاص من المصائب والمحن والأهوال والأمراض والموت والفناء، بفعل قوة عاقلة مدركة مهيمنة على كل هذا الكون الواسع. ومن هنا، فإن غير المؤمنين بالأديان أيضا، يمكن كذلك - كما أحسب - أن يصيبهم أيضاً نصيبٌ وافرٌ من الطمأنينة النفسية والروحية والعاطفية، بعد أو أثناء أو جراء، تلك الممارسات الطقوسية الروحية الدينية العاطفية، التي تدعو لها الأديان المختلفة. حتى لو كانت تلك الممارسات، مجرد ممارسات سلوكية شكلية، خالية من القناعات العقائدية الداخلية العقلية. فالنفحات الإلهية في الواقع، ليست بعيدة عن قلب أحد من الخلق، مهما صغر حجمه أو قل وزنه أو تضاءلت قيمته. كما أن الله سبحانه وتعالى، ليس خاصاً بأحد من الخلق دون أحد. فهو سبحانه وتعالى، الإله الرحيم، واسع الرحمة والمغفرة، خالق هذا الكون ومدبره وراحمه ومجريه لهدفه بحكمته البالغة، وهو السميع المجيب لجميع الخلق، الذي يفهم لغة كل أحد، حتى البهيمة الخرساء، والذرة الصامتة، وهو أقرب لعباده الضعفاء والحيارى والمساكين، من حبل الوريد.

إن دين الله، رغم كونه عند غالبية البشر، حتى وقتنا المعاصر، لغزاً عظيماً يجهله الكثيرون من بني البشر، إلا أنه في واقع الناس وحياتهم، كيان روحي وعاطفي غني ومهم، شفاف وساحر ومليء بالرحمة، صانع للبهجة والسعة والسرور والسعادة. وهو مرتبط بتحقيق قيمة الإنسان في هذه الأرض، وتحقيق قيمة لوجوده في هذه الحياة. وقد تحقق بفضله حتى لعبدة الأبقار والصخور والأوثان والأصنام، التي لا تضر - بل أحسبها تضر بالإضلال - ولا تنفع أحداً، عبر العصور، قدرٌ عظيم من الثبات والاستقرار العاطفي والنفسي والروحي. ولازال ذلك الإشباع الروحي والنفسي والعاطفي، بفعل العقائد التي يتبناها الناس، مستمراً حتى اليوم. وذلك حاضرٌ حتى أمام الصخرة والشجرة، التي يخترع لها الناس قداستها، ثم يخضعون لعبادتها، بغرض إشباع حاجاتهم الماسة للتوسل والضراعة وشكاية الفقر والضعف والحاجة والفاقة والمرض والموت.

ومن هنا، وبالنظر عبر ذلك المنظار السابق، لمسؤولية (رجل الدين) عن الدين نفسه، صاحب تلك الموقعية الحساسة والهامة، وعن حفظه ورعايته، وباعتبار الدين حصناً ثابتاً منيعاً، قد شيد فوق الأرض منذ القدم، بغرض حفظ الأخلاق والنظام والقانون والإنسان والكيانات البشرية، فهنا بناءً على ما سبق ذكره، فإنني أريد القول: (إن جدلنا في الساحة الدينية، لا يصح أن يهدف، ولا ينبغي أبداً أن يهدف، لإسقاط رجال الدين - خصوصاً حينما يكون الدين المقصود هنا، هو أصدق الأديان، وأعظم الأديان، وأطهر الأديان، ووحياً إلهياً سماوياً حقيقياً، خالصاً من رب السماء -). لكن ينبغي بالتأكيد رغم ذلك كله من الجهة الأخرى، أن يكون هناك نقدٌ يكشف مواقع الخلل والخطل والزيف والاعوجاج، في الساحة الدينية. يفضح خواء وزيف بعض رجال الدين، المتلبسين بلبوس التقوى والزهد والورع والعرفان، المتواجدين في الساحة بغرض الاستغلال المشبوه والخاطئ والآثم للدين ولعواطف الناس البسطاء والأبرياء ... يفضح ويبين الدور الحقيقي المطلوب من رجل الدين وموقعيته المقدسة ... دون حاجة غالباً طبعاً للخوض في الأسماء والهويات ... ما لم تكن هناك تجاوزات فعلية عملية خطيرة تتطلب نوعاً من التدخل الفاضح ... فالقضية في الغالب قضية أدوار وأفعال وليست قضية رجال وأفراد وأشخاص.

وبالمختصر المفيد هنا، عند الحديث عن دور رجل الدين، فإنه يمكن أن نأتي هنا للقول، أن ذلك الدور، يمكن أن يختصر في عدة نقاط، منها أو أهمها، ما يلي:

أولاً: إحداث (التوازن الروحي) لدى أبناء المجتمع، وإشباع هذا الجانب بالطرق المناسبة، بعيداً عن التقصير المخل، وبعيداً عن الغلو المرهق والخطير. وأقصد هنا بذلك، إشباع الجوانب النفسية والروحية والعاطفية بالطرق الصحيحة، الأقرب إلى العلم والعقل والمنطق، والبعيدة عن الخرافة.

ثانياً: الحفاظ على (التوازن المنطقي والعقلي للدين)، من خلال تفسيره في بيئته المعرفية البشرية العقلية والعلمية بما يتناسب مع عقل الإنسان وعلمه. آخذين في حساباتنا، أن تجاهل العلم والمنطق والعقل البشري، كفيل بلا شك، بأن يسقط الدين من معادلات الحياة، ليخنق الدين بعد ذلك، في هامش الحياة الضيق، فيفقد الناس جذوته الروحية المتقدة. في حين يمكن أن يستمر الدين في العطاء وزخم روح الإنسان بالحياة، إذا حقق الدين، التوازن مع العلم والعقل والمنطق السائد في الحياة. أي أن المطلوب هنا، هو عقلانية خطاب العلماء، انطلاقاً من أنه، لا تكليف ولا عقيدة أو قناعة صحيحة وسليمة بلا عقل، ولا عقل بتجاوز العقلانية البشرية، التي يعيش في ظلالها الإنسان.

ثالثاً: تعزيز (الجوانب الإنسانية)، وخدمة (المصالح العليا والفطرية) للمجتمعات البشرية، والحديث باستمرار عن تلك القضايا الهامة، وبعثها وإحيائها في حياة الناس. أي (الأنسنة)، في خطاب وممارسات وفعل وحركة، رجال الدين.

رابعاً: الإسهام في (التخطيط)، لحل مشاكل الفرد والأسرة والمجتمع والأمة - بكل ما تعنيه كلمة التخطيط من معنى -، عبر التفكير العلمي الاستقصائي الناقد والهادف، المتوجه لحل المشاكل البشرية. وعدم الاكتفاء بإطلاق الشعارات الحماسية الكبيرة الفضفاضة والزائفة، من فوق أعواد المنابر. فيكفينا ما مرت به الأمة من ويلات الحماس ورفع الشعارات، التي لا تتكئ، على خطط سليمة صحيحة عقلية كاملة معدة بجهد وإتقان. فالأهداف الصحيحة، لن تنموا وتثمر غالباً من خلال الشعارات والفوضى والحماس. فماذا أنتجت ثورة المليون شهيد، بعد الحماس والخراب، غير الدمار؟؟؟!!! وماذا أنتجت ثورة العشرين وثورة التنباك، عندما غاب التخطيط وغابت رؤية المستقبل؟؟؟!!! وماذا سيكفينا من رفع شعار (الإسلام هو الحل)؟؟؟!!! في ظل الحماس والانفعال والتخبط وغياب التخطيط، وعدم وجود اتفاق وإجماع ورؤية صحيحة وواضحة في فكر الأمة، لما يجب أن يكون عليه قانون الحياة ودستورها المفصل، عندما يحكم ذلك الإسلام؟!!!.

خامساً: ضرورة (اعتراف الخطاب الديني بقيمة الإنسان)، وعدم توريط الأفراد في مشاكل حياتية لا داعي لها، من خلال الخطاب الديني الحماسي، وتوجيهاته المغرقة في حلم رجل الدين، البعيد كل البعد عن الفهم والتخصص في السياسة والاقتصاد وإدارة البلاد، والبعيد عن فهم حيثيات ومآلات الواقع، بحيث يزج بالأفراد في معارك ومآزق وتضحيات، من أجل أوهام أو شكليات وقضايا طقوسية شكلية، نعلم يقيناً أن الله تقدست أسماؤه، غنيٌ عنها. في حين يبقى رجل الدين، الغارق في أحلامه السياسية والاقتصادية والإدارية، متشدقاً في كل حين بشعارات نقيضة، توحي للمؤمنين، بإيمانه بأن حرمة المؤمن أعظم عند الله من حرمة الكعبة المشرفة - لكن تصان عنده حرمة الكعبة المشرفة، وتهتك في مشاريعه وأحلامه، كرامة وحرمة الإنسان ويهان -. أو من جهة أخرى، فقد يورط الناس في مآزق وحروب خفية خاصة به، من أجل نصرة مشاريع ومصالح خاصة به فقط، وبتحويله للقائد الرمز الأوحد، يغفل فيها قيمة الإنسان، فيضحي به، باعتباره وحدة التشييد والبناء.

وفي النهاية، فإن المطلوب من رجال الدين في الحقيقة، إنما هو دورٌ قياديٌ صحيحٌ وواعي. يدفعنا للاعتزاز والافتخار بهم، وتقدير دورهم القيادي وجهودهم المهمة في الأمة، الساعية لتحقيق مصالح العباد وعزة ورفاه وحماية وبناء أفراد الأمة. وعدم التضحية بأيٍ فردٍ منهم، إلا في الضرورات الملحة والقصوى، وضمن حدود إدراكهم وإرادتهم الجمعية الواعية. فذلك ما سيدفعنا حتماً للفخر بهم، وحمايتهم وتقديرهم. لكننا، لن نرحب بالتأكيد، بأي فردٍ منهم - أي من رجال الدين -، يتحول لعالة على المجتمع، أو يستخدم الدين ودوره في المجتمع، مطية لتحقيق الشهوات، ومركباً للضحك على عقول البسطاء من الناس ... فهذا خلاف ما يريده الله سبحانه وتعالى منا ومن رجال الدين. وهذا النوع من رجال الدين، المتاجرين بالدين، هم من سيسقط الدين برمته، لو تسيد الساحة، لا قدر الله.

وهذا الكلام في الواقع، لم يأتي هنا من فراغ. بل هو نتاج واقعٍ مرٍ نعيشه، ويعرفه الكثير من الواعين في مجتمعاتنا، جيداً. وأمامي اليوم، قائمة طويلة عريضة، من قصص وحكايات غريبة عجيبة، كفيلة بأن تدفع مكانة رجل الدين بالتأكيد نحو الهاوية. وآخرها كانت حكاية أو قصة واقعية، رواها لي أحد الإخوة المؤمنين، متأففاً من واقع بعض رجال الدين، المرضى بمرض استغلال تدين الناس وحبهم للإيمان وأهله، جراء قيام أحدهم، من رجال الدين المعروفين، المتصنعين للورع والتقوى والزهد، باستنزاف آلاف الريالات، من جيوب محبيه - في تحديدٍ غريب منه، لعبادات غير محددة، بمبالغ نقدية كبيرة -، متكئاً في ذلك كله، على ثقة الناس به، وعلى بعض القناعات الدينية الخرافية، وكذلك أيضاً من خلال توظيفه لبعض الروايات الضعيفة، بل المدسوسة في كتب الحديث، بشكل لا شك أنه مفضوح، للواعين بل وأشباه الواعين أيضاً تماماً.

وإننا في آخر هذا المطاف الطويل من النقاش، لن نطلب من رجل الدين النزيه، المحترم للنقد البناء، ولآراء الآخرين، سوى: (النزاهة والإخلاص والعقلانية والإنسانية)، في القول والفعل والتصريحات والتصرفات. وبالشكل الممكن والمعقول، وغير المستحيل طبعاً، كي لا نغرق في الأحلام. وسنضع حينها، رجل الدين هذا، تاجاً على رؤوسنا ... وكفى الله المؤمنين شر القتال.