لا وقت للذاكرة

زهراء علي آل عبيد

 لا وقت للذاكرة


هُنا سأنتزِع من الذكريات شيئاً عن الشيبة البيضاء و الرأس ِ البور ذي الأرضيّة الملساء لا أبيضَ يُفشي بسنواته  و لا أسود يجعلهُ سخرية للعابرين!


لذكور في حياتي بصمات لا تنتهي ..كالنُفايات/رجال التي لا تنتهي من ملئ حاويات الزبالة/إناث..
[ تريزا بوداكر] ..
عُذراً !



لكن ذَكرَ هذه السطور ليس نُفاية بَل النّصف منها و الآخر يُسمى  بهِ إنسان وربما حيوان ..!
و ربّما جَلّ منهم كُلهم و يمسى طيفاً لا يزورنا إلا حينما تشاء الريح !

أتذكر يومها حينما زارني طيفُ ذاك الخرف ..


لا تسعني أرضي حينما أراه أرتمي كملاك صغير في حضنهِ و أغورُ في جبّهِ الدافئ ..أُحاول ملئ يديّ من صدره , و أغرزُ أنفي في جسدهِ ببراءة ,  لتتسرب رائحته وحرارته لخياشيمي , كنتُ أعشقُ فعل ذلك في كل مرّة ,  بالرغم من رائحة عرقهِ التي لا أُبالي بها و لا أُعيرها أدنى اهتمام ..
يمسُك بكلتا يدي ويصرخُ في وجهي .. لِمَ تأخرتِ أيتها الطفلة المجنونة ؟
أردُ ببراءة [ الشمس خربانة .. ما ولّعَت اليوم ]
فيقهقه بصوته الذي يُشبه صرير الباب مع رخَامة لطالما تكرر صداها في رأسي  , أُحبها ربّما هي الأخرى , لم يكن هذا الأشيَب يعي بأنه سينساني أو بأني مجرد طفلة و حينما أكبر سأقتلعه من ذاكرتي ببساطة , كأي وجه عابر .

 
يُزعجه قراري بالعودة إلى بيت أبي في كلِّ مرّة , يصرخُ في وجهي وهوَ مُبتسم .. [ مافيه بيت .. أنا بيتش .. و هاكِ صلعتي ] يُمسكُ بغترتهِ البيضاء و يُرديها إلى جواره , وينكّسُ رأسه الذهبي إلى وجهي .. اممممم .. مازالت [ القحفيّة ] موجودة .. أنتزعها بهدوء ..لأعري قرعته أمام وجهي , و أبدأ ضربها بيدي و يبدأ هوَ يُداعبُ هواجسي الرهيفة بتأوههِ اللطيف ..فأحسبه أنّه قد تألم/ تأذّى , لأضع خدي عليها و أضُم رأسه أيضاً , كبطّيخة في حضنِ طفلٍ لم يُكمل عامه الرابع .
يقول لي دائماً ..[ ألمْتِنِيْ .. و سَتُعاقبين ] !
ليغض لحمة كتفي .. التي يشتهيها إذا ما رآني , و أنا أشتهي رائحته وصوته , وأكمِلُ غريزة الشوق بالقرب منه .

أتذكرة حينما يرفعني فوق كتفيه , و يتركني ألعب مع أغنامه التي يُربيها في مزرعته الكبيرة ..


زأرَ عليّ ذات يومٍ بوحشيه , حينما سمعتُ خوار البقرة من بعيد , و ذهبتُ لأرَى ماذا يفعل هؤلاء النفر من الرجال داخل عشةٍ مع بقرة !
زمرة الأطفال حذروني من المجازفة .. لأن الجد يضع خطوطا حمراء و منعاً لخطوات أطفال هُناك ..

لكنني كسّرتُ رهان بقيّة الشلة و اقتحمتُ العشة .. ووقفتُ خلف الجد الذي يُمسك بضرع البقرة بعصبيّة و يُطلق حليبها صوب الإناء ..
نظرتُ لوجه البقرة بألم .. إنها تتعذب بلا شك ..[ حرام اتعوروها ] و بدأتُ أبكي بحرقة  ألماً لذات البقرة المسكينة ..

قام جدي من فورة ، و أوكل حلبها لأحد العُمّال ، وجاءني ليحملني و يركُنني على كتفٍ واحده و يغض قدمي..
هه
..
حتى في السيارة لا أتوانى عن إزعاجه, فليس هنالك مقعد يسعني في سيارته سوى حضنه..

أسألهُ ببراءة [ يباه اتحبني قد السما ؟!]
يردُّ [ أُحبكِ بدون حدودٍ , لا لسماء و لا للكون كله]
كنتُ لا أفهم جوابه و أصمت .. متأمّلةً الطريق الزراعي بسكينة ..

ب
ع
د
عشرين عاماً من عمر الأرض

و مِنَ الغرق !


ذهبتُ أقرع باب غرفتهِ
فيفتحه لي بحنقٍ و يصرخ كعادتهِ في وجهي حينما كنتُ طفلة و لكن هذه المرّة بدون ابتسامة عمياء ..
[ نعم ؟]
[ مرحباً جدي حبيبي ]
أرمي شفتيًّ على  رأسهِ و أُدبقهُ بقبلات الشوق ..
قد نحل جسمهُ كثيرا .. و يبدو  أن قامته قد قصرت و بدأ الشعرُ ينبتُ في صلعتهِ البور ..و لا أعلم ماذا أيضاً قد تغير !..
قاطعني
[ من أنتِ؟]
تفاجئتُ كثيراً .. توقفَ كُلُّ شريانٍ ينبضُ في جسدي..
ماذا قد حصل ؟!..تفوهتُ برعشةٍ آسنه ..
[ أنا زينبُك]
[أيُّ زينب ؟!]
كانت عيناه تطلِقُ شظايا نارٍ تلهبني و تُربكني .. ينتظر مني جواباً .. و قلبي لا ينبض فقد أرادهُ خِنجرُ جدي قتيلاً ..

[لا شيء فقط جئتك أسأل الله العافية لك و أقبل حجرك الأسود المُعلّق في رأسِك ]
[لستُ مستعداً للغرباء !]

و أغلق باب غرفتهِ في وجهي .. وسدّ باب الذكريات ..
سألتُ العمّة و التي تراقبني بصمت و وَجَلْ عن تصرّف الجدّ الغريب !

قالت ..[ زينب .. وَتركِ قد انقَطع و ما عاد يصلحُ للغناء .. جدّكِ فقد ذاكرته]


و يحكِ يا زينب .. قد كَبُر بيتكِ العتيق و اقتلعكِ من ذاكرته كأي و جهٍ عابر ..
و تدثرت مسانِدُ صدري
صوبَ الذكريات ..

 

أمسى الوقتُ للموت فقط .. و ليسَ للذّاكرة .