كن معي فأنا الدين

الشيخ/ محمد الصفار

نحن بحاجة ماسة لتسليط الضوء على الدوافع والأسباب التي تدفع المتدينين إلى خوض معاركهم الداخلية بعنف وحماس منقطع النظير، مدمرين بذلك قدراتهم الداخلية التي هي ملك للأمة، ومنفِّرين للناس من حولهم، حيث تعتزل الأكثرية هذا الصراع الذي تراه خاطئاً، أولاً تستسيغه على أقل التقادير لعدم وجود التفسير المقبول والمبرر لمعاركه المحتدمة.

يرهق المجتمع ويثخن بالجراحات على صعيد لحمته وعلاقاته الاجتماعية، التي قد تمتد إلى العلاقة الرحمية إذا اقترب الصراع من الأقارب، الذين يتبنون مواقف غير متوافقة وغير منسجمة مع بعضها، فتتضرر آمال المجتمع ويصاب بالخيبة، وتتأكد فيه ثقافة الهزيمة والضعف والتخلف.

فما هي الأسباب الكامنة وراء هذه الصراعات؟ ما الذي يحركها، وما هو العامل الذي يشعل نارها ويزيد أوارها؟

إن الآيات القرآنية من سورة الحجرات (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا...) تعرضت لموضوع القتال بين الطائفتين المؤمنتين، لكنها لم تتعرض للسبب، ولم أرَ من المفسرين من يتحدث عن سبب معين وراء حالة الاقتتال والصراع، لكن الجميع منهم يسير على نمط آي القرآن فيتناول الحلول والعلاجات التي تناولها القرآن الكريم، مع أن الصراع هو نتيجة لمقدمات وأسباب تشكل الخلفية لحدوثه وحصوله.

والذي يبدو لي أن الحكمة وراء عدم حديث القرآن عن سبب الصراع ربما كانت راجعة لأمرين:

الأمر الأول: إبقاء الفرد المؤمن والتجمع المؤمن أو المجتمع المؤمن في حالة يقظة دائمة، تجاه كل الأسباب والاحتمالات التي تؤدي للتصارع والتقاتل، فليس هنالك سبب معين يؤدي بعينه إلى الصراع كي يشار إليه بالبنان، إنما هي سعة النفس وهواها، وقوة الشيطان في التلون فتتعدد وجوه الصراع، ويتغير سلاحه، ويتبدل لباسه في أشكال يتعب الإنسان من متابعتها وإحصائها، ولذلك جاء تنبيه القرآن الكريم إلى الاقتتال كنتيجة ينبغي ألا تحصل، أو أن تعالج مهما كانت أسبابها.

الأمر الثاني: إن صراع المتدينين، لا يختلف عن صراع غيرهم، لا من حيث أسبابه ومسبباته، ولا من حيث قوته وعنفه، فليست هناك أسباب معينة تنبت الصراع في المتدينين دون غيرهم، بل هم بشر يشملهم ما يشمل غيرهم، من أسباب التصارع والتقاتل، فالقرآن الكريم يفترض حالة التقاتل بين المؤمنين، وعليهم (كما هو واجب المجتمع) أن يبحثوا عن أسبابه، التي قد ترجع إلى خلل معين أو ظروف ملتبسة، أو إنها وليدة وساوس وهواجس داخلية.

واجب المجتمع هو أن يبحث حسب ظروفه وأوضاعه ليكتشف السبب ويبادر في علاجه، يقول السيد جعفر مرتضى العاملي في كتابه (الإسلام ومبدأ المقابلة بالمثل) في صدد الحديث عن هذه الآية من سورة الحجرات «والذي كان أولاً هو الاقتتال بين الأفراد المسلمين، اقتتال لم يعلم وجهه، ولعله بسبب فئة لا يعرف وجه الحق فيها، أو سوء تفاهم ناشئ من عدم العقل والتثبت، يستتبع تعصبات قبلية وجاهلية عامة».

ولذلك اتجه القرآن إلى الحل وإلى الصلح وإلى تحريك المجتمع للتقريب بين الخصمين أو الطائفتين دون مبالاة بالأسباب، أو تقديس لها باعتبارها تخص المتدينين.

ولأن القرآن الكريم قد تحدث عن ظاهرة ممكنة الوقوع دون الحديث عن أسبابها، فقد ترك لنا باب تفسير الصراعات، والبحث عن عوامل نشوئها مفتوحاً لنتأمله حسب ظروفنا وأوضاعنا، وملابسات الوقائع التي نشهدها.

لكن يهمني التأكيد على أن أغلب الصراعات التي تجري في الوسط الديني حقيقتها ليست دينية، وإن كانت ألبستها وزخارفها وشعاراتها دينية، فعلينا ألا نخدع، ونصطف هنا أو هناك باعتبار أن هذا دين وذاك باطل، فالأمر ليس كذلك في الصراعات الاجتماعية البينية خصوصاً ضمن المذهب الواحد وأحياناً التوجه الواحد، وللحديث صلة