الكتابة رحلة لا تتوقف

خلال رحلتي في عالم الكتابة والتي تجاوزت الثلاثة عقود، وهي بلا شك رحلة مثيرة، لامست الكثير من الزوايا والقضايا، وقاربت الكثير من الأحداث والموافق، وناقشتُ الكثير من الأفكار والقناعات، وتلك هي الوظيفة الكبرى التي من أجلها وجدت الكتابة، منذ أن نقش/ رسم الإنسان الأول مشاعره ورغباته على الصخور والجبال. ولكن، ثمة قضية مهمة لم أستطع فهمها أو الوثوق بها في عالم الكتابة، ألا وهي مزاج القارئ.

القارئ، لا سيما الحديث أو ما يمكن أن يُطلق عليه ”القارئ العصري“ المتسلح بالتقنية الحديثة بكل شبكاتها ومنصاتها ووسائطها، والذي يتخذ عادة بعض المواقف والإشكالات حول الكتابة الكلاسيكية التي تواجه الكثير من التحديات والمواجهات. هذا القارئ الحديث، أشبه بلغز لا يُمكن فهمه، فضلاً عن معرفته. لقد تحوّل هذا القارئ العصري من مجرد «مستقبل» لكل ما يُكتب هنا أو هناك، إلى «مشارك»، بل ومنافس وموجه ومؤثر، الأمر الذي جعل الكتابة تتعرض للكثير من الضغوطات والأعباء والتحديات. والكتابة الحديثة بصحبة هذا القارئ المشاكس الذي لا نعرف ماذا يُريد، بل هو كما يبدو لا يعرف ما يُريد. لقد تخلّت الكتابة عن الكثير من عاداتها وتقاليدها وأدبياتها التي سيطرت لقرون طويلة. الكتابة الآن، أصبحت عملية «توافقية» بين طرفين/ ندّين رئيسين يملكان القدرات والتأثيرات نفسها.

ولكن، ماذا عن مزاج القارئ الحديث الذي أصبح كابوساً مزعجاً يؤرق الكتاب والمشتغلين في عالم الكتابة؟ وحتى لا أسقط في فخاخ الإجابات الملتبسة حول هذا السؤال الشائك، سأطرح بعض الأمثلة والتجارب التي يتعرض لها الكتاب:

مثلاً، يُطالبنا القرّاء كثيراً بالابتعاد عن العمق والإطالة ولكنهم في نفس الوقت يشنون حرباً شعواء ضد كل من يكتب بلغة سهلة ومباشرة. كذلك يتهموننا دائماً بأننا نُمارس جلد الذات، حينما ننتقد فكرة أو ظاهرة، ولكن بمجرد أن يكتب أحدنا عن جانب مضيء أو إنجاز رائع، يُتهم بالمبالغة والتزلّف. نكتب عن العادات والتقاليد والأعراف المجتمعية الجميلة التي نفخر بها، فنتعرض لسيل من الردود والتعليقات والتجريحات التي تتهكم على هذه النظرة الماضوية المتشبثة بالأمس، ولكن هؤلاء أنفسهم من يتهمون كل من يُثني على أي تقدم تقني أو علمي أو حضاري في دول العالم الأول، بالتغريب والتبعية والتقليد.

الكتابة لهذا القارئ الحديث الذي يتقلّب مزاجه ويتبدل فكره بشكل لحظي، تحوّلت لعمل شاق وصعب، ولكنها من جانب آخر، تُحرّض على مواجهة هذا التحدي الكبير بصنع وإنتاج الكثير من الأشكال والألوان الكتابية المختلفة والمميزة، لتجذب كل القرّاء، لا سيما ذلك القارئ الحديث متقلّب الفكر والمزاج.

لكل مهنة أو حرفة خط زمني متعدد الأشكال ومتنوع الوظائف، والكتابة ليست مختلفة عن ذلك، فهي بحاجة ماسة لمواكبة ومسايرة التغيرات والتطورات، فالكتابة على جدران الكهوف التي خطها الإنسان الأول، كانت مجرد صناعة بدائية لمسيرة لا تتوقف من الكتابة الإبداعية التي لا نهاية لها.

كاتب مهتم بالشأن السياسي والاجتماعي والوطني