كيف نزرع القيم في النفوس؟

قبل مدة، تابعت بشغف برنامجاً إنجليزياً شهيراً، يُخصص أغلب حلقاته وحواراته حول الأسرة وصناعة القيم. كانت حلقة مثيرة وصاخبة، بل أشبه بملتقى علمي وتخصصي دولي، فقد كانت المحاور عميقة وذكية، وكان الضيوف الخمسة من ثقافات وأعراق مختلفة، والحلقة معنونة بهذا السؤال الكبير: ما أفضل الطرق لصناعة القيم في نفوس الناشئة؟.

بدأت الحلقة بتقرير طويل، يستعرض أهم وأشهر الأشكال والأساليب التي تُسهم في زرع القيم والمبادئ الإيجابية والفاعلة في فكر ومزاج الشرائح والمكونات الصغيرة والشابة في المجتمعات والأمم، كالمنزل والمدرسة والبيئة المحيطة ودور العبادة والأندية الرياضية وورش التعليم والتدريب والإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي والتلفزيون والقدوة والمثال والنقاش والحوار وغيرها من الأدوات والأساليب. وفي نهاية تلك الحلقة المثيرة، اتفق المشاركون على أن أفضل شكل وأسلوب لصناعة القيم والمفاهيم في نفوس ووجدان الناشئة هو الفن الدرامي والمسرحي والسينمائي، أي أن يتم تسريب وضخ القيم والمبادئ المراد زراعتها وتعزيزها عن طريق الحوارات والمشاهد المعدة والمصنوعة بذكاء ورشاقة، بعيدة عن المباشرة الخطابية والنصائح الوعظية.

صناعة القيم في نفوس ومشاعر البشر، ليس بالأمر البسيط أو السهل، بل هو عملية معقدة وشائكة وتحتاج للكثير من المقومات والمحفزات، لكي تنجح وتستمر تلك الزراعة القيمية المهمة. صناعة القيم، تتطلب وفرة وجودة معايير وقواعد، بعيدة كل البعد عن الأساليب الخطابية المباشرة وخالية من الممارسات التلقينية الوعظية.

في عصرنا الراهن المتسارع، والمزدحم بمختلف التقاطعات والمتناقضات، تحوّلت صناعة القيم والمُثل في فكر ومزاج الناشئة إلى عملية معقدة وملتبسة، وتحتاج إلى أدوات وأساليب ابتكارية وليست تقليدية، وتُعدّ الدراما التلفزيونية واحدة من أهم تلك الأشكال والأساليب الفعالة لصنع وتوجيه القيم والمشاعر، وذلك من خلال الحوارات والحبكات الدرامية المصنوعة بذكاء ووعي. الرسائل والتأثيرات المراد تمريرها وتعزيزها من خلال الحوارات والمشاهد الجذابة، تتسلل بحب وتلقائية وتؤثر بشكل سريع وعميق في قلوب وعقول الناشئة.

مسلسل تلفزيوني، يُصنع بوعي وذكاء، وبخطوط وسيناريوهات موضوعية وحرفية، ويُقدم أبطالاً وشخوصاً طبيعية وليست سوبرمانية تحمل بعض القيم والمشاعر الجميلة وتُناضل بواقعية وعقلانية من أجل تلك القيم والمبادئ، سيكون له أكبر الأثر في نفوس ومشاعر الأجيال الصغيرة والشابة التي هي في الأساس تعشق الفن الدرامي والمسرحي والسينمائي. فهذه الأجيال الناشئة قد سئمت من كل تلك الطرق والأساليب الكلاسيكية المباشرة لصناعة القيم والثقافات، سواء في بيوتهم أو مدارسهم أو مجتمعهم.

الدراما والمسرح والسينما، بل والفنون بمختلف أشكالها وألوانها ومستوياتها، هي الأكثر قدرة وتأثيراً ونجاحاً في صناعة القيم والمفاهيم والمشاعر في نفوس الأجيال الناشئة.

كاتب مهتم بالشأن السياسي والاجتماعي والوطني