"كل واحد عقله في راسه ويعرف خلاصه"؟؟

 

 

 

عندما نقرأ سلوكيات عامة البشر في تاريخهم وحاضرهم، نلاحظ أن من فطرة الإنسان حرصه على إرشاد أخيه الإنسان لما "يراه" حقا وفيه الخير والمصلحة. هذه الظاهرة بارزة في أكثرية المجتمعات البشرية في مختلف الأزمنة رغم وجود جماعات قليلة تحصر توجيه هذا الإرشاد من أو إلى مجموعة خاصة من البشر، ولكنها في النهاية تقوم به وإن كان محدودًا، ولا يخرج من هذا التصنيف إلا شواذ قلائل يحرصون على احتكار الخير لأنفسهم أو يحرصون على راحتهم أكثر من القيام بهذا الدور الإنساني العظيم. انظر إلى أصحاب الديانات والأفكار والنظريات في شرق الأرض وغربها، هل ترى أحدا لا يبشر بما يراه حقا؟ انظر إلى التدين، الديمقراطية، الإلحاد، الرأسمالية، الليبرالية، العلوم المتنوعة، الثقافة، العلمانية، الاشتراكية، الفلسفة، وغيرها، هل ترى المؤمنين بأحقيتها لا يبشرون بها و"ينصحون" البشرية باتباعها؟

إن هذه الحقيقة تخدم البشرية حيث توجهها وترشدها لما فيه صلاحها وتقدمها وتساعدها في تصحيح أخطائها وتجنب مآسي كبيرة إن هي أصغت جيدا عبر اتباع ما تثبت صحته ونبذ ما يثبت خطؤه. مع ذلك يظهر بعض من يروج ضد هذه القيمة الإنسانية وينشر شعارات براقة ومبادئ تجذب كثيرا من الناس ولكنها خاطئة. من هذه الشعارات، المقولة الدارجة "كل واحد عقله في راسه ويعرف خلاصه".

توجيه العبارة

هناك  طريق واحد فقط يمكن من خلاله أن يكون هذا المبدأ صحيحا وهو عندما يقصد به ترك الحرية للناس وعدم إجبارهم على اتباع أمر معين بعد تقديم النصح والإرشاد والترويج للخير وبيان الأدلة والبراهين وتكرار هذا العمل بمقدار كافٍ لتوضيح الصورة لبقية البشر. كل ما يقع ضمن هذا الإطار هو ما يقره العقل والشرع حيث جاء في كتاب الله: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"(1)، فبعد تبيين الحق من الباطل تترك الحرية للناس.

هذا الكلام لا غبار عليه ونحن لا نتعرض له هنا، وإنما نناقش  ما يقصده الكثير من المؤمنين بهذه العبارة  وهذا المبدأ من ترك  النصح أصلاً لأن  كل إنسان يمتلك  عقلا ولا يحتاج  لأحد ليوضح له الصح من الخطأ والحق من الباطل، ويعتبرون ذلك قمة الحرية والانفتاح والتقدم!

لماذا يروج لهذا المبدأ؟

بعض الناس يعتقد ويروج  لهذا المبدأ جهلا واشتباها، وبعضهم لمصالح شخصية، أما ما يهمنا هنا هو أمران: 
1- أن يستخدمه البعض لإسكات ضميره عبر ممارسة خداع النفس بتبريرات تتحول مع مرور الزمن إلى قناعة حقيقية يدافع عنها صاحبها ويجمع الأدلة في تأييدها ليطمئن نفسه أولا، وربما ليقنع غيره فيما بعد، وبالتالي يموت الضمير الإنساني الحاث على نشر الخير والإصلاح.

2- توجيه هذا المبدأ في كثير من الأحيان لمهاجمة بعض الممارسات الدينية -المنبعثة من هذه القيمة الاجتماعية والإنسانية العامة- أو تبرير التقصير والتخلف عن تأديتها كالتبليغ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والرد على الشبهات، وما أشبه.

فلندع العقل والواقع يتحدثان

1- اختلاف درجات العلم والمعرفة بين البشر: كل إنسان مهما بلغ من العلم في حقل أو مجال معين هو جاهل في مجالات أخرى، وبالتالي فهو محتاج لغيره ممن يفوقه علما أو اطلاعا في تلك المجالات ليبين له ما يجهل، أو ما قد يصعب عليه فهمه أو يشتبه ويلتبس على ذهنه.

إن  السيارة التي ينقصها الوقود لا يمكنها أن توصلك لمبتغاك، كذلك العقل الذي ينقصه العلم أو الفهم الصحيح و العميق لا يمكنه أن يوصلك إلى القرارات والقناعات الصحيحة دون الاستعانة بالآخرين.

2- هل يستخدم الإنسان عقله في كل قراراته وقناعاته؟

لا  يخفى على أي إنسان  أن هناك مؤثرات خارجية وداخلية تؤثر على  عمل العقل وقد تفقده قيمته في كثير من الأحيان، وبالتالي يحتاج الإنسان إلى من يعيده إلى صوابه. هذه الحالات ليست نادرة أو مختصة ببعض البشر، بل تحدث باستمرار ولأغلب البشر، ومنها عندما نكون تحت تأثير الانفعالات والضغوط النفسية والعاطفية المختلفة. عندما يغتر الإنسان أو يتردد أو يتسرع أو يغضب أو ينحاز أو يتبع شهواته، فإنه لا يصغي لعقله غالبا. هل يجهل أي مدمن على المخدرات أنه يحقن نفسه بسموم قاتلة؟ إذًا، لماذا لا يمنعه عقله من ذلك؟

هل  يقبل العقل أن نفترض  أن أي إنسان وإن كان أعلم العلماء في مجاله يستخدم كامل قدراته العقلية في جميع أموره الصغيرة والكبيرة ولا يمكن وقوعه في الخطأ ولو بسبب بعض المؤثرات الخارجية؟

3- النسيان والغفلة: مع افتراض أن الإنسان يمتلك العلم الكافي ويستخدم عقله في كل حركاته وسكناته، فهل يوجد إنسان لا ينسى ولو للحظة؟ ألا يحتاج كل إنسان لمن يذكّره؟

حتى وإن افترضنا أن قرارات إنسان ما وقناعاته بناها على دليل عقلي، فهل يصح  أن نفترض أن كل ما يفعله ناتج عن عقله وقناعاته هذه وأنه لا يغفل ويتصرف بما يخالف عقله وقناعاته؟ ألا يحتاج كل إنسان لمن يخرجه من غفلته عندما يغفل؟

عندما قال العليم الحكيم –سبحانه وتعالى- : "وذكر" فإنه أتبعها مباشرة بقول "فإن الذكرى تنفع المؤمنين"(2) أي أن المذكَرين يعتقدون مسبقا بهذا الشيء الذي يذكرون به ولكنهم مع ذلك قد يغفلون وينسون ويحتاجون لمن يذكرهم باستمرار، وهذا الأمر لا ينحصر في الدين طبعا لأن كل إنسان يحتاج ينسى ويغفل خصوصا وسط زحمة الحياة وتعقيداتها في عالم اليوم.

من  يروج لهذه المقولة فهو يبطلها بنفسه

إذا كانت هذه المقولة  صحيحة فلماذا تروجون لها إذا؟ إذا كان كل إنسان يمتلك عقلا في رأسه ولا يحتاج إلى من يرشده إلى الحق، إذاً كان يفترض أن يؤمن جميع البشر بهذه المقولة –لأنها صحيحة في نظر قائليها- ولا ينصح أحد أحدا ولا يعلّم أحد أحدا ولا يتدخل في قناعاته، فهل كان "كل واحد عقله في راسه" في أي وقت من الأوقات وترك البشر هذه الأمور وآمنوا جميعا بهذه المقولة؟

طبعا  لا، ولذلك احتاج  أصحاب هذه المقولة  أنفسهم أن يوضحوها ويبلغوها للبشر وينصحوهم باتباعها، وبذلك ناقضوا مقولتهم وأبطلوها عمليا.

(1) سورة البقرة، آية 256
(2) سورة الذاريات، آية 55