الجدل وتطور المعتقدات

لا يتميز الإنسان بقدرته على إنتاج الأفكار فقط بل إنه لا يستطيع أن ينظر إلى العالم إلا من خلالها، هذه الأفكار التي يكونها من تجاربه وقناعاته أو يتلقاها تلقيناً من محيطه أو هي من هذا وذاك، ويبقى أسيراً لها مهما طال به العمر، وانفكاكه من فكرةٍ ما لا يعني إلا انتقاله إلى قيد أخرى.

ليس هذا فحسب، بل إن لهذه الأفكار والمعتقدات بالغ الأثر على السلوك الفردي والمجتمعي، إذ ينزع الإنسان على إضفاءِ معنىً على كل سلوك يقوم به، وهنا يأتي دور المنظومة الفكرية المُتبنَّاة التي يأخذ منها تبريره لكل سلوكياته التي تجعله متناغةً مع نظام الكون فلا يشذ عنه.

الجدير بالملاحظة أنه رغم انضواء آلاف بل ملايين البشر ضمن دائرة منظومة أفكار معينة كالدين أو الفلسفة أو الطائفة أو الحزب إلا أنه لا يمكن إخضاع جميع المنتمين لها إلى تطابق كامل، وإن حدث فهو لا يعدو كونه ظاهرياً وما يلبث أن يطفوا هذا الإختلاف على السطح حتى يتسع الخرق على الراقع، وهذا جلي واضح في ما نراه من اختلاف الأديان وإنشقاق الأحزاب وتعدد الطوائف والمعتقدات، فهذه سُنَّة من سُنن الكون جُبل عليها الإنسان.

بغض النظر عن الإختلافات الفردية بين المنتمين لمنظومة واحدة الناتجة عن القناعات والخبرات والتجربة الفردية، توجد هناك عدة أمور لها الأثر البالغ على زعزعة وتغيير المنظومة الفكرية بالسلب أو الإيجاب فكما قد يكون التغيير ارتقائياً نحو الأفضل فقد يكون ارتكاسياً للأسوء.

تعتبر السياسة من أجلى هذه الظروف المؤثرة على المعتقدات، ونذكر هنا الإمبراطور قسطنطين الأول الذي دعى لمجمع نيقيا الذي هو أول مجمع مسكوني مسيحي والذي تم على إثرة تبني كون المسيح إبناً للإله بدل كونه مجرد رسول ومنها بدأ اضطهاد الآريوسيين أصحاب الرأي الآخر حتى سيطرت الفكرة المدعومة سياسياً على حساب الأخرى، ولا ننسى هنا المذهب القائل بالجبر الذي تبنته السلطة الأموية تبريراً لما تفعله من انتهاكات دينية وأخلاقية واضحة.

وهناك الأثر الجدلي الفكري، ومن أهم معالمه نشوء علم الكلام في بداية القرن الثاني الهجري بعد أن تكاثرت الفرق الدينيه واختلفت آرائها فؤسس لهذا العلم الذي صقل وأسس للكثير من معتقدات الفرق الإسلامية والتي من أهمها المعتزلة التي تقول بوجوب النظر بالعقل في جميع المسائل الدينية وبرز خلال هذه الفترة الكثير من المتكلمين والفرق الكلامية والتي منها الشيعة والجهمية والمرجئة وغيرها.

التطور الواقعي، وهو الناتج إثر صدمة الواقع المخالف للعقائد أو الواقع الذي يضع الأفكار على محك التجرية، ومن أبرز أمثلتها ما حصل في عصر النهضة الأوروبي من عدة صدمات متتالية وهزات عنيفة أدت إلى إعادة النظر في منظومة الأفكار والمعتقدات بحيث لا تتناقض مع الواقع، والتي منها اكتشاف مركزية الشمس وكروية الأرض، واكتشاف العالم الجديد «الأمريكتين واستراليا»، واكتشاف البكتيريا والكائنات المايكروسكوبية التي كانت سبب الكثير من الأمراض المجهولة.

لازلنا نرى بين الفينة والأخرى بروز ظاهرة اجتماعية أو دينية تكون مثاراً للجدل بين أخذٍ ورد، وهذا أمرٌ في حد ذاته جيد ومطلوب، إذ إن الظواهر الإنسانية لا تنتج من فراغ، بل على أساسٍ فكريٍ أو عقائديٍ يكون ظهوره نتيجةً لتراكم فكري ذي طبيعة ما، أكان شعبياً سماعياً أم له أصلٌ مُقَعَّد فهو مسكوت عنه، وهذا الظهور فرصَةٌ لنقد الذات تؤدي للإنتقال لما بعدها بعد الشطب أو الإثبات.

لا تؤدي التجارب إلى التطور بالضرورة، فالتطور محكومٌ بالإستجابة الإيجابية المتفاعلة مع ما يحدث، فإنكار الواقع طلباً للثبات الفكري لا يؤدي إلا إلى حروفية عمياء لا ترى الواقع، مراجعة العقائد على محك الواقع لا يعد نقصاً أو عيباً في المنظومة العقائدية ولا يجب أن نتحسس منه أو نخاف بل هو جدل معرفي صاعد ناتج عن طبيعة القصور الإنساني وجهله، وهذا الجدل تعبيرٌُ جليٌ لحالة الإنتقال من الحالة الأولى إلى الثانية أو من قطعية الجهل إلى نسبية المعرفة.

حالة الجدل أو الإنتقال هذه ليست طارئةً على أي عقيدةٍ أو فكر، بل هي الأصل فلا توجد أفكارٌ عذراء منذ نشئتها بل هي تراكمات معرفية أثرت عليها الظروف بأنواعها الإجتماعية والأقتصادية والسياسية والمعرفية، فالثبات هو الطارئ لا الحركة.

أعظم سلوكيات الإنسان الناقص المعرفة بطبيعته أن يقف على أبواب جدران جهله طارقاً إياها بحر رأسه بعد أن كلت يداه، وأبئسها أن يظن حدود معرفته حدوداً للكون نفسه متقاعساً بتعالٍ على واقعه بخيالٍ لا يجد له موطئ قدمٍ على أرض الحقيقة الصادمة.