عطاء حتى الرضى

«وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى‏»

المعطي هو من أسماء الله تعالى، فهو وحده المفيض على الكون كله بعطائه الذي لا ينفد «كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً». فما من مخلوق إلا وهو محتاج إلى عطائه في كل آنٍ من آناته، لا يستغني عنه أبدا، وإن توهَّم البعض الاستغناء غافلا عما يتقلب فيه من عطايا الله الذي لا ”تزيده كثرة العطاء إلا جودا وكرما. إنه هو العزيز الوهاب“.

ونظرة خاطفة في متون الأدعية الشريفة، توقفنا على الكثير من كنوز المعرفة المتعلقة بمفردة العطاء الإلهي: «يا مَنْ يُعْطِي الكَثِيرَ بالقَلِيلِ، يا مَنْ يُعْطِي مَنْ سَأَلَهُ، يا مَنْ يُعْطِي مَنْ لَمْ يَسْأَلْهُ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ تَحَنُّنًا مِنْهُ وَرَحْمَةً» «وَيا مَنْ لا يُكَدِّرُ عَطاياهُ بِالاِمْتِنانِ» «وَأنْتَ الَّذِي عَطَاؤُهُ أكْثَرُ مِنْ مَنْعِهِ، وَأنْتَ الَّذِي اتّسَعَ الْخَلائقُ كُلُّهم في وُسعِهِ. وَأنْتَ الَّذِي لا يَرْغَبُ في جَزاءِ مَنْ أعَطاهُ» «وَأنَّ كَرَمَكَ لا يَضيقُ عَنْ سُؤالِ أحَدٍ وَأنَّ يَدَكَ بِالْعَطايا أعْلى مِنْ كُلّ يَدٍ».

العطاء كما جاء في كتاب التحقيق في كلمات القرآن الكريم هو ”إيتاء شيء لشيء بمقتضى ما في النفس من عظمة والتزام، من دون نظر إلى جهة تمليك أو غرض أو عوض أو غيرها“. وبهذين القيدين، الإيتاء واقتضاء النفس، تمتاز مفردة العطاء عن مترادفاتها كالسخاء والهبة والبذل وغيرها. وهذا المعنى مستفاد من الآيات الكريمة، كقوله: «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» وقوله: «هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ» وقوله: «قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏». أما قوله: «وَأَعْطى‏ قَلِيلًا وَأَكْدى‏» فذلك العطاء بمقتضى نفس المعطي، وكذلك قوله: «حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ» فهو إعطاء بمقتضى التزام منهم على أنفسهم.

وأما الآية الكريمة التي هي محور حديثنا «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى‏» التي يخاطب فيها الله تعالى نبيه محمدا ففيها الكثير من اللفتات العظيمة، نذكر منها:

1 - حذف المفعول الثاني في قوله «يُعْطِيكَ» يدل على إطلاق العطاء وعدم تقييده، وفي ذلك بيان لسعة العطاء وعظمته.

2 - الإتيان بلفظ «رَبُّكَ» دون لفظ الجلالة، حيث لم يقل: يعطيك الله، وذلك لما في لفظ الرب مع الإضافة لضمير المخاطب من إشعار بالعناية والرعاية والاهتمام والحظوة.

3 - الإتيان بفاء التعقيب في قوله: «فَتَرْضى‏» للدلالة على تحقق الرضى بمجرد العطاء دون انتظار شيء آخر.

4 - عدم تقييد الرضى بشيء في قوله: «فَتَرْضى‏» يكشف عن رضى مطلق بعطاء مطلق.

5 - هذه الآية تدل على المقام العظيم الذي بلغه النبي بحيث يأتيه الوعد الرباني بإعطائه وإعطائه حتى يرضى. وفي ذلك دلالة على عصمته إذ إن رضاه لا يكون تبعا لهوى النفس، وإنما للحق وللحق فقط. وهذا ما يفيده قوله تعالى: «وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ» إذ جعلت رضى رسول الله من رضى الله تعالى، فلم تقل: أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُما.

6 - رضى النبي كان أيضا مصبًّا للتشريع الإلهي في قوله: «فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها»، وفي ذلك ما فيه من علو شأنه .

7 - ورد في مضمون بعض الروايات أن الذي يُعطاه النبي فيرضى هو مقام الشفاعة، وهذا دليل على ما يحمله قلبه من حُنُوّ ورحمة وشفقة على الآخرين، خصوصا أولئك الذين أهلوا أنفسهم لشفاعته ولم يكونوا من المستكبرين المجرمين.

8 - إن هذه الآية «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى‏» تدعونا لأن نبحث عما يرضي رسول الله فنلتزم به، ونبتعد عن كل ما يسخطه، كي ننال رضاه وشفاعته يوم الفزع الأكبر.

فهل نحن لذلك فاعلون؟!

شاعر وأديب