متى سنعرفك أيها الجواد؟!

  لو أخذنا عينة عشوائية من شباب العالم الإسلامي وطلبنا أن يكتب كل منهم صفحة عن العالم المصري المعاصر أحمد زويل، فماذا ستكون النتيجة؟!
ولو طلبنا من نفس العينة أن تكتب عن ممثل أو رياضي أو مطرب أو أي شخصية من الشخصيات التي أعطيت صفة النجومية طبقا لمقاييس ومواصفات هوليوود ومثيلاتها لاحتاج الواحد إلى صفحات يسطر فيها بعض ما يعرفه عن هذا ( النجم أو النجمة !) بما في ذلك تفاصيل الحياة الشخصية. ترى هل أدركنا معنى العولمة الثقافية؟!
وأحمد زويل – لمن لا يعرفه – هو الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999م لابتكاره نظام تصوير يرصد حركة الجزيئات عند نشوئها و عند التحام بعضها ببعض، والوحدة الزمنية التي تلتقط فيها هذه الصورة هي الفيمتو ثانية, التي هي جزء من مليون مليار جزء من الثانية، والنسبة بين الثانية والفيمتو ثانية هي النسبة بين الثانية و32 مليون سنة. لقد كان تصوير ما يحدث بالضبط خلال التفاعلات الكيميائية مستحيلا قبل زويل للسرعة التي تحدث بها هذه التفاعلات، ولكنه أصبح ممكنا مع تصوير الفيمتو ثانية. طبعا الشعوب التي لا تهتم بالساعات ولا حتى بالسنوات وكل شيء عندها ( مشي حالك ) لا يمكن أن نتوقع منها اهتماما بهذا الجزء البسيط جدا من الثانية، أما الشعوب المتقدمة فإنها تبحث عن الجزء الأصغر الذي يعرف بالأتو ثانية.
وإذا كان هذا الحال مع عالم معاصر منحته نوبل مساحة إعلامية جيدة، فكيف الأمر بالنسبة لعلماء ومفكرين آخرين حوصروا في الركن المعتم لأن علاقتهم بالسلطة السياسية لم تكن على ما يرام، أو لجرأتهم في طرح الآراء العلمية التي لا تتفق مع حالة السكون الاجتماعي والثقافي.
وسيكون الأمر أكثر إيلاما وإعتاما عندما تصل النوبة إلى إمام من أئمة أهل البيت عليهم السلام، الذين تجهلهم الأمة بسبب حالة الإقصاء والتهميش التي تعرض لها تراثهم، ونال أتباعهم منها الشيء الكثير. فلو طلبت من نفس العينة السابقة أن تكتب صفحة أو بعض صفحة بل سطرا أو بعض سطر عن الإمام محمد بن علي بن موسى الرضا الملقب بالجواد لحصلت على نتيجة مرعبة.
فهذا الإمام الذي ينتمي لأهل بيت النبوة، والذي قال عنه العلامة سبط بن الجوزي في تذكرة الخواص: " ومحمد، الإمام أبو جعفر الثاني كان على منهاج أبيه في العلم والتقى والزهد والجود"، والذي عاش عمره القصير ( 195 هـ - 220 هـ)، وكان قمة في العلم منذ صغر سنه، حيث عقدت له مجالس المناظرات مع كبار فقهاء عصره فكان صاحب القدح المعلى، وترك تراثا عظيما في الفقه والعقيدة والحكمة رغم الظروف السياسية القاسية التي مر بها؛ مع ذلك كله فإنه مجهول تماما عند الشريحة الأكبر من المسلمين.
لا أريد أن أكثر العتاب أو أن أتحدث عن الأسباب، فذلك موضوع يطول الكلام فيه، بل سأقتطف شيئا من تراثه الجم الذي يعالج قضية هامة من قضايانا، وأعني بها العمل التطوعي الذي لا يزال مجتمعنا بحاجة ماسة إلى إنشاء المزيد من المؤسسات التي تعنى به والتي تتصدى لشؤونه وشجونه المتكاثرة.
فالإمام الجواد عليه السلام يؤسس أولا لأهمية العمل الإنساني التطوعي من منظور واسع يشمل الحياتين، يرى أهل العطاء في الدنيا هم أهل العطاء يوم القيامة: فعن أبي هاشم الجعفري قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «إن في الجنّة باباً يقال له المعروف لا يدخله إلاّ أهل المعروف فحمدت الله تعالى في نفسي وفرحت بما أتكلف من حوائج النّاس، فنظر إلي (عليه السلام)، فقال: نعم تمّ على ما أنت عليه فإنّ أهل المعروف في دنياهم هم أهل المعروف في الآخرة جعلك الله منهم يا أبا هاشم ورحمك.
ونظرا لما قد يتعرض له المشتغلون بالعمل التطوعي من مصاعب جمة فيعتزلون العمل لأنهم لا يجدون من يقدرهم، لذا يصحح الإمام الجواد عليه السلام نظرتهم بأنهم هم أحوج لهذا العمل ممن يقدم لهم : أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج من أهل الحاجة إليه لأن لهم أجره وفخره وذكره فما اصطنع الرجل من معروف فإنما يبدأ فيه بنفسه.
أليس هذا تأكيدا للمبدأ القرآني: ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا (7) سورة الإسراء
وإمعانا في تغيير النظرة لقيمة العمل التطوعي، يؤكد الإمام على حياة أعمق وأطول يحياها الإنسان بالبر وإسداء المعروف: موت الإنسان بالذنوب أكثر من موته بالأجل وحياته بالبر أكثر من حياته بالعمر.
وفوق ذلك كله نجد الإمام الجواد يجسد في سلوكه العملي ما يدعو إليه أجمل تجسيد، فها هو ينفق من وجاهته في توجيه رسالة إلى أحد الولاة يطلب فيها منه قضاء حاجة محتاج: أمّا بعد: فإنّ موصل كتابي هذا ذكر عنك مذهباً جميلاً، وإنّ ما لك من عملك إلاّ ما أحسنت فيه، فأحسن إلى إخوانك، واعلم أنّ الله عز وجل سائلك عن مثاقيل الذرة والخردل.

كما نراه يتفاعل مع آلام الآخرين ويواسيهم، يقول المؤرخون: إنّه قد جرت على إبراهيم بن محمد الهمداني مظلمة من قِبل الوالي، فكتب إلى الإمام الجواد (عليه السلام) يخبره بما جرى عليه، فتألّم الإمام وأجابه بهذه الرسالة:
(عجّل الله نصرتك على من ظلمك، وكفاك مؤونته، وابشر بنصر الله عاجلاً إن شاء الله، وبالآخرة أجلاً، وأكثر من حمد الله.

ومن مشاركاته الجميلة التي حفظها لنا التاريخ، رسالتا تعزية تحملان أجمل المعاني، وتنيران لنا الدرب في التعامل مع ما خولنا الله من نعمة الولد أو الصحة أو المال أو الجاه أو المنصب أو غير ذلك حين نفقده لسبب من الأسباب.
بعث الإمام رسالتين لشخصين فقد كل منهما ولده، فكتب يواسي الأول:
ذكرت مصيبتك بعليّ ابنك، وذكرت أنّه كان أحبّ ولدك إليك، وكذلك الله عز وجل إنّما يأخذ من الولد وغيره أزكى ما عند أهله، ليعظم به أجر المصاب بالمصيبة، فأعظم الله أجرك، وأحسن عزاك، وربط على قلبك، إنّه قدير، وعجّل الله عليك بالخلف، وأرجو أن يكون الله قد فعل إن شاء الله.
وكتب يواسي الثاني الذي شكا له ما ألم به من حزن وألم:
أمَا علمت أنّ الله عز وجل يختار من مال المؤمن، ومن ولده أنفسه ليؤجره على ذلك.
لقد كان الإمام الجواد عليه السلام من أهل المعروف والعطاء، وطابق فعله قوله واسمه حتى شمل بجوده الحيوان فضلا عن الإنسان:
روى محمد بن الوليد الكرماني قال: أكلت بين يدي أبي جعفر الثاني (عليه السلام) حتى إذا فرغت ورفع الخوان ذهب الغلام ليرفع ما وقع من فتات الطعام فقال (عليه السلام) له: ما كان في الصحراء فدعه ولو فخذ شاة، وما كان في البيت فتتبعه والقطه.
هذا غيض من فيض جوده، فهل سنتعرف عليه أكثر؟ هو لا يحتاج معرفتنا، بل نحن المحتاجون لمعرفته والاقتراب من هدي سيرته.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
المستقل
[ ام الحمام - القطيف ]: 19 / 11 / 2009م - 5:15 م
استاذي المحترم ابو احمد ما اروع قلمك عندما ينساب حبا في اهل بيت النبوه و ما اجملك عندما تربط المقدمه بأصل الموضوع فنرى مقالا كسلسال مترابطة حلقاته . استاذي العزيز اسداء المعروف عند اهل البيت طبع متأصل فيهم فالمعروف خالط لحمهم و دمهم فنراهم يسدون المعرف للعدو قبل الصديق فلك في قضية الامام السجاد مع عائلة عبدالملك بن مروان خير شاهد فهل نحن يا سيدي هكذا . نحن للاسف نحرق المعرف بالمن و لا يمكننا ان نسدي معروفا الا لمن مهم يعيشون في كنفنا . و ياليت يقتصر هذا على المعروف فقط بل تعدى الى الحقوق الشرعيه و هو حق لمستحقيه اصبحت توزع حسب ولاء هؤلاء لمن بيده هذه الحقوق و يستطيع التصرف بها و يكون العطاء الاكبر لصاحب الولاء الاكبر و ليس لمن هو مستحق فعلا . ليتك سيدي ايها الجواد تعيش معنا و ترى من هم يتقلدون زمام اموركم و يتصرفون في حقوقكم كأنه ارث توارثه من ابيه و اصبح ملكا لا يمكن لاحد ان يحاسبه . و دمت يا استاذي صاحب اليد الطولى في المعروف فمعروفك واضح من خلال عطاءاتك الفكريه و تحركاتك الاجتماعيه فحياتك كلها معروف .
2
بدر الشبيب
[ أم الحمام - القطيف ]: 20 / 11 / 2009م - 4:49 ص
أخي العزيز الأستاذ المستقل:
أشكرك على ثقتك وحسن ظنك بي وأسأل الله أن يجعلني أهلا لذلك..
لقد أثرت يا عزيزي نقطة في غاية الأهمية والحساسية لأنها مورد ابتلاء عظيم.. بالطبع ينبغي أن ننأى عن التعميم حتى لا نساوي بين الجميع في هذا الأمر.. ولكنها بالفعل مسألة تحتاج إلى مصارحة صادقة مع من يعنيه الأمر..

نعم كان أئمتنا عليهم السلام واسطة الفيض الإلهي الذي يعم الجميع ويشمل حتى عدوهم ولذا كانوا النموذج الأرقى والأنقى.

جعلنا الله وإياك ممن يقتدي بهديهم إنه سميع مجيب..
شاعر وأديب