«الأحساء» تودع «شيخ المؤرخين» الرمضان

شبكة أم الحمام الأحساء - جواد الرمضان

نعى الأحسائيون الأربعاء الماضي «شيخ المؤرخين»، اللقب الذي أسبغوه على شخصية استثنائية حفظت تاريخ المنطقة ورصدت تاريخ الأحساء شفهياً وتدوينياً، لتبقى شخصية المؤرخ الشيخ جواد حسين الرمضان، الأبرز بين مثقفي وأدباء الأحساء، الذين نعوه بشكل كبير، واصفين رحيله بـ «الخسارة الكبرى»، كونه أحد أعمدة الرصد لتاريخ الأحساء الحديث، وواحداً ممن وهبوا ذاكرة لا تعجز أمام أي سؤال تاريخي، حتى مع تقدمه في العمر، ظل موسوعة متنقلة يستقبل في منزله كل من أثقله السؤال ليخرج محملاً بإجابات لا يمكن أن يخالطها الشك.

ولد المؤرخ الرمضان في عام 1355، إلا أنه وبعد أن أتم الثامنة من عمره تجرع اليتم، مع إخوته الخمسة، لتبدأ رحلة كفاحه مبكراً، وينتقل الصبي الصغير مع عائلته في عام 1369 إلى البحرين، وبمعية أخيه الأكبر محمد، صاحب ديوان «مائدة رمضان»، وهو أول ديوان شعري لشاعر أحسائي صدر في عام 1385، وبين ثقافة الأخ، ومهنة الأب الذي لم يعش معه طويلاً في حياكة البشوت «المشالح»، تربى الطفل الصغير ليبدأ العمل بها وهو في الـ15 من عمره، وعيناه على مدرسة «العامر» في المنامة، إلى أن تحقق له ذلك وحفظ القرآن الكريم، قبل أن يلتحق بالتعليم النظامي إلا أنه لم يمنح شهادة دراسية.

حصل على الشهادة الابتدائية في سورية، وأكمل دراسته النظامية هناك حتى الصف الثالث المتوسط، إلا أن رجوعه للأحساء حال دون إكمال دراسته، وضاع حلمه بأن يلتحق بالمعهد العلمي في الهفوف بسبب أن عمره كان أكبر من السن المسموح له بالالتحاق بالمتوسطة، لتبدأ علاقته بالباحث بالتراث بجهد ذاتي وتفرغ للمطالعة والقراءة والبحث والتنقيب العلمي، وبدأت صداقته تقوى مع الوثائق والمخطوطات، ليشد الرحال لبلدان كثيرة يجمع منها المعلومات والوثائق، ليصبح بعدها مصدراً مهماً للتراث الأدبي والتاريخي في منطقة الخليج وليس في الأحساء فحسب، وتتبع العائلهجر الشيخ الرمضان مهنة والده في حياكة «البشوت» بعد ثلاثة عقود قضاها يرهق ناظريه في تفاصيل التفاصيل، حتى باتت لا تساعده على الاستمرار، وتفرغ لعشقه الثاني التاريخ، فأصبح ملازماً له دون أن يفترقا، ويعد نتاجه التاريخي والأدبي دسماً بعد أن أصدر العديد من الكتب والمعاجم، ومنها «مطلع البدرين في تراجم علماء وأدباء الأحساء والقطيف والبحرين»، وهو مكون من 12 جزءاً، ومعاجم أخرى لا تقل أهمية عن معجمه الشهير، وكان واحداً من أهم المؤرخين الذين اعتمدوا على الأسلوب الشفهي في الأحساء والمنطقة، إذ مارسه في حدود ستة عقود متواصلة، إذ كانت لقاءاته مع شرائح المجتمع الأحسائي المختلفة التي يدوِّن أحاديثها التاريخية شأناً لم يشاركه أحد فيه.

لن يتسنى للباحثين والمثقفين في يوم الجمعة المقبل وما سيليه من الجمع، الالتقاء بشيخ المؤرخين في مجلسه في حي الأندلس في مدينة الهفوف، الذي يعقد في كل يوم جمعة من الساعة التاسعة صباحاً وحتى 11 ظهراً مجلساً أدبياً ثقافياً تاريخياً، ولم يقتصر مجلسه الأسبوعي على أبناء الأحساء فقط، بل تعداه للمدن والدول الخليجية المجاورة، الباحثين عن التراث والأنساب والأدب.

تميزت شخصية الشيخ الرمضان بالبساطة على رغم عمق العلم الذي يحمله، ففي مجلسه كل شخص له مكانة سواء أكان أكاديمياً أو مجرد رجل بسيط، وابتسامته تملأ الأجواء وهو يستند إلى عصاه مغمض العينين يستمع للسؤال قبل أن يسرد التاريخ بسلاسة تجعل المستمع له في ذهول ولا يريده أن يتوقف، ليصنع لنفسه مكانة اجتماعية كبيرة جعلت منه واحداً من أبرز الشخصيات العلمية الأحسائية الحديثة.

أقام نادي الأحساء الأدبي حفل تكريم خاص بشيخ المؤرخين، في شهر رمضان الماضي، اكتظت قاعة احتفالات النادي بالأكاديميين والمثقفين والأدباء ورجال الدين والعامة من الجنسين، في حفل وصفه الإعلام بـ «الكبير الذي يستحقه هذا الكبير»، ليبدأ الحضور سرد مناقب وذكريات رجل أفنى عمره في البحث والتحقيق والتنقيب، لتأتي لحظة التكريم وتدوي القاعة بتصفيق دام مطولاً، وليشاهد الحضور دموع الشيخ الكبير الذي كرِّم قبل أن يرحل.

لم يمضِ على احتفال واحته الأحساء بتتويجها موقعاً تراثياً عالمياً سوى يومين فقط، ليرحل عنها مخلفاً وراءه إرثاً كبيراً من المخطوطات والوثائق التاريخية التي اجتهد في جمعها إلى جانب مؤلفاته الضخمة، التي ستبقى شاهدة على شخصية فرضت مكانتها على خريطة العلم والأدب والتاريخ في منطقة الخليج.