بين المأمول والمعقول
لقد أتى علَيَّ حينٌ مِنَ الدهر كنتُ أقول فيه بمسؤوليتي التامَّة عن تغيير المفاهيم الخاطئة التي تقبع في خُلد الجميع عني، وهذا أمر قد قضَّ مضجعي كثيراً وأثقل كاهلي، وبعد محاولات مُضنية، وتجارب مُمِضّة، اكتشفتُ أنني أمخرُ عُباب المستحيل، فأينما يمَّمتُ وجهي أرى شخصاً يحمل فكرة عني تحتاج لتغييرٍ، أو تصحيحٍ، أو اتساقٍ على الأدنى.
من هنا، أيقنتُ أن هنالك الكثير من المفاهيم التي تحتاج إلى دَوزَنَة، والأفكار التي تحتاج إلى تشذيب، فأقنعتُ نفسي بأمور جديدة، من ضمنها: أنَّ مالغيري فهو لغيري، وأنَّ مالي فهو لي، حتى وإن كان ذلك انطباعات بُنِيَت عنّي. فلستُ مسؤولاً عن تغييرها ما لم يكن لي يد في رسمها أو تكوينها، فقد تكون تلك الانطباعات بتأثير طرفٍ آخر، أو رُصِدت بطريقة خاطئة، أو فُهِمَت بطريقة خاطئة، فليس كل قالب يضعني فيه غيري قد يناسبني، وليس كل تقييم لي قد ينصفني.
من هذه الخانة، وحتى ننعمُ ببعض الاسترخاء، يجب ألا نغفل أن هنالك مَن لا يربضُ في مِخدَعه فقط لأجل رصد هَنَات غيره دون هوادَة أو جَمجَمَة، ولا يتورَّع عن المناوءة والتنصّل من الحقائق وإن كانت بلجاء وجليّة. لا لشيء، فقط لإلصاق بعض التهم التي نسجها في خياله بأي شخص يُضمِر له شيئاً من الضغين. وهذا ما قد يُخفّف عنّا بعض الأوزار، ويُفَنِّد بعض الهواجس.
العالم مليءٌ بالخير، كما هو مليء بالشرّ، ولا يختلف عاقلان على أن هناك بَون عميق بين الأول والثاني، ولكن ليس بالضرورة أنّ تكون حسناً حتى يحبك الجميع، كما أنه ليس بالضرورة أن تكون شريراً حتى يكرهك الجميع، فأفضل الخلق لم يحبه الجميع، كما أنَّ أشرُّ الخلق لم يكرهه الجميع.
أيضاً، يجب ألا ننشغل عن أنَّ الخلط والاختلاف في المفاهيم والمعايير الاجتماعية قد يُسهم في تكوين انطباعات جائرة عن بعض الأفرادٍ، فما تعتبره أنت حقاً، قد يعتبره غيرك باطلاً، والعكس بالعكس صحيح، وهذا قد لا يندرج تحت مظلة الاستنكاف أو المغالبة، لأنه قد يكون وليد ثقافات وأعراف متضاربة ومتعارضة في المعنى.
حريٌّ بنا أن نُتقن قراءة أنفسنا قراءةً سريعةً وواثقةً مثلما نقرأ أسماءنا الرباعية، فمتى وصلنا لهذه المرحلة، فإننا وصلنا لمرحلة الإيمان بذواتنا، ومتى آمنَّا بذواتنا، فلن يُزعزع ثقتنا في أنفسنا كائنٌ مَن كان. متى آمنا بذواتنا سيؤمن بنا الجميع، لأن الإنطلاق يكون من أنفسنا إلى العالم وليس العكس. حينها فقط سنُمسي حقيقةً لا مَفَرَّ منها، يُقِرُّ بها حتى ألدّ الأعداء.
الإيمان بالنفس لا يعني القول بعصمتها، بل هو ملامسة غَورها، وإدراك قوتها، والإعتداد بجمالها.
و الإيمان بالنقص هو أَسْرٌ لا باب له، يقطنه الفرد بأصفادٍ مُحكَمَة، ويصاحبه فيه تقهقر واضمحلال حتى ينتهي به المطاف.
خلاصة القول، بدلاً من إجهاد قلوبنا، وإجهاض طاقاتنا في التفكير في تغيير مفاهيم الغير الخاطئة عنَّا، فإن الأجدى والأنفع والأولى هو التفكير في تغيير مفاهيمنا الذاتية الخاطئة التي ستنعكس على سلوكياتنا وتعاملاتنا، وذلك لعدة أسباب، من ضمنها أن الأولى قد لا تكون في المتناول، بعكس الثانية التي هي تحت سيطرتنا وقدرتنا وإن كانت عصيّة في مواضع، لكن ليست بالمستحيلة.
الأمر الآخر، هو أن تغييرنا الإيجابي في أفكارنا وقناعاتنا قد يأخذ منَّا بعض الجهد المحصور، ولكن سينجم عنه تغيير في مخرجاتنا السلوكية والفعلية وسيشعل جذوَة حماسنا مجدَّداً، وسيُفضي بشكل تلقائي إلى تغيير انطباعات الجميع عنّا دون جهد منّا حيال هذا الأمر.