[ نبض الأرض ] - إهداء لكل مُغترب
علاقة الفرد بأرضه لا يمكن أن تُحدَّد في شكلٍ دبلوماسيٍّ مٌطلق ، و لا أن تؤَطّر في أُطُرٍ رسمية تأخذ شكل أوراق و بطاقاتٍ ثبوتية . بل إن هذه العلاقة تحكمها معايير إنسانية و سيكولوجية بحتة . فالكثير من الناس يحملون جنسياتٍ لدولٍ دَلَفوا إليها ، و عاشوا فيها ردحاً من الزمن ، لكنهم لا يشعرون بالإنتماء إليها -و إن ادَّعَوا عكس ذلك- ، بل قد لا يُتقنون لهجتها ، و لا يُجيدون إرتداء زيّها ، رغم أن اللهجة و الزيّ يندرجان ضمن الثقافة الوطنية . ربما قدِموا لتلك الاوطان و سَعَوا للحصول على جنسياتها لغاياتٍ يرومونها ، و أهدافٍ يضمرونها. لكن يبقى إنتمائهم الحقيقي لوطنهم الأم.
العلاقة بالأرض ليست مُجرَّد جنسية تُمنَح ، فمن يتنازل عن جنسيته الأصلية للحصول على جنسيةٍ أخرى ، قد يتنازل عن الأخيرة لقاء حصوله على جنسية أخرى إن تسنَّى له ذلك ، لكن مَن يأسُرُ في قفصه الصدري عشق وطن ، فلن يستعيض عنه بعشقٍ آخر ، حتى و إن نال جنسيّة أخرى.
في الضفة الأخرى ، نجد أن هنالك أناس سقطت رؤوسهم ، و نشأوا و ترعرعوا على أرضٍ ليست بأرضهم ، و لا يحملون جنسيتها ، لكنهم تطبّعوا بطباعها ، و أصبحوا يتحدّثون بلهجتها ، و يرتدون زيّها ، و يحبون أكلها ، و يستنكفون عن مغادرتها ، و يكنّون لها الولاء ، و يشعرون نحوها بالإنتماء ، و لا يرضون حتى بأوطانهم الحقيقية بديلةً عنها . فهي في اعتبارهم الوطن الفعلي ، الذي عاشوا فيه ، و حفظوا تفاصيله ، و سكن فيهم قبل أن يسكنوا فيه. حيث لا أكسجين يستنشقونه إلا في هذه الأرض ، و لا شمس تُشرق إلا عليها ، و لا قمر يطلّ إلا فوقها، و لا طير يْحلِّق إلا في سمائها. أمَّا وطنهم الأم ، فهو مجرَّد حواديت و أساطير سمعوا عنها و لم يرونها ، فوطنهم الفعلي هو الواقع الذي عاشوه و تلمَّسوه.
علاقتنا بالأرض لا تختلف عن علاقة الأشجار بها ، فجذورنا ممتدَّة في أعماقها ، و فروعنا متفرّعة إلى عنان السماء.
علاقتنا بالأرض أيضاً لا تختلف عن علاقة الموج بالشَطآن ، فنحن نعيش معها ما بين مَدٍّ و جَزرٍ ، و حلٍّ و ترحال . فقلوبنا تمخر عباب البحر ، ثم تعود إلى المرسى مُجدَّداً.
الوطن يا رفاق لا يختلف عن الجسد. فالوطن يتكوَّن من أرجاء ، و الجسد يتكوَّن من أعضاء . فلا يُصبح الوطن وطناً إلا بأرجائه ، و لا يُصبح الجسد جسداً إلا بأعضائه.
حتى و إن رَمَت بنا أمواج الحياة إلى سواحل بعيدة لطلب علم أو رزق أو ثمّة أشياءٍ أخرى ، سنكتشف رغم بُعد المسافة أننا على بُعد خطوات من أوطاننا ، بل على بُعد نبضات.
في كل مرّة نزور فيها أوطاننا ننتشي فرحاً ، و نستنشق هواءً مختلفاً مُعطَّراً بعبقها ، و نصول و نجول في شوارعها متأملين أدَقّ تفاصيلها ، و كأننا نرى تلك الشوارع لأول مرّة في حياتنا ، و هي الشوارع التي حملت ذكريات كل سنة ، بل كل شهر ، بل كل أسبوع ، بل كل يوم و ساعة و دقيقة من أعمارنا . و ما أن نغادرها مُجدَّداً و نعود أدراجنا ، إلا و نتذكّر أننا نسينا بها شيئاً كبيراً لا يُنسى البتَّة ، لكن في خضَمّ السلام و التوديع و حَزم الأمتعة استعداداً للسفر نسيناه عنوة . نحاول التذكّر ، لكن الذاكرة لا تسعفنا للوصول لهذا الشيء ، و بعد تفكيرٍ مَليّ ، و تنقيبٍ عَصيّ ، نكتشفُ أن ما نسيناه في أوطاننا هو قلوبنا ، و نستغرب ، كيف لنا أن نكون على قيد الحياة في الغربة ، و قلوبنا الخافقة في أوطاننا ؟!