الهدوء
عم الظلام والهدوء والسكينة الحي , فالفجر اقتربا من البزوغ .
ويشق هدوء الليل رائحة غريبة تلاعب أنفي .
ويخيم على قلبي الخوف , وترتسم على وجهي الدهشة .
تتسارع أقدامي لتكشف المجهول , ونظري يزيح الستار .
دخان كثيف يتصاعد , واسترق السمع لربما من يستغيث .
فقط رائحة الدخان تدمي دموعي .
واسحب ابني الأكبر من دراعيه , وفي محياه سؤال ... وسؤال ...
ولكن رائحة وكثافة الدخان , أخفت بعض التساؤلات من محيى ابني .
ولم يكن هناك مجال لا لسؤال ولا الاستئذان , بل انقاذ الأرواح .
وقوة ابني الضعيفة كسرت الباب , نظرت عيني في فناء البيت .
امرأة تشع إبتسامتها نور وصفاء , رغم رائحة الدخان التي تدمي دموعها .
وإبتسامتها الشفافة أجلستني بجانبها , أما ابني كان نصيبه .
الانسحاب بهدوء , ولم تنسحب استفهاماته من ذاكرته , وتم حفظها في مفكرته الخاصة .
ورائحة وكثافة الدخان أجرت دموعي بغزارة .
أما ضحى كما عرفت بنفسها , فهي انتقلت قبل أيام قلائل للحي .
ولم تنثر ضحى عباراتها , ولم تتناقش , ولم تتحاور معي عن حقيقة دموعها .
ولا عن علة هذا الدخان وكومة الأوراق المحترقة .
كانت تنظر إلى أوراقها المحترقة .
نظرت إلى معانيها , تحمل براء الطفولة , وعلى شفتيها إبتسامتها , وبين أهدابها دموعها اللؤلؤية .
كأنها تودع الألم وتستقبل الأمل .
تبحر في الحاضر وتغوص في الماضي .
قلب يلتهب بأنين الماضي وفرح يرتسم بنسمات الشروق .
كانت تودع الظلام وتنتظر الشروق .
وتصاعدت نفحات الصمت , كأعمدة الدخان المنبعثة من لهيب الأوراق .
أخذ نظري يقلب الأحرف المتناثرة , وقصاصة الصور المبعثرة .
قلبي يبحر في أعماق معانيها , ويغوص بين أصداف لؤلؤها المكنون .
حروف تلتهب بين الدخان لا أعلم مكنونها .
ولكنها حروف تحرق ماضي أحرق قلب ضحى .
وذكريات لصور شتت فؤادها المتقطع أنينه .
وبصوت صمتها الفصيح يجلجل الظلام الدامس .
ضحى تنثر قصاصة الماضي , وتحرق ألم دفين بين طيات قلبها النقي .
ضحى وأنا تحاورنا بصمت .
ضحى نعم أحرق أوراق الماضي , وأبعثر صور الذكريات .
لماذا ؟
ولما هذه القساوة ؟
صمت ضحى ينثر حروفها .
نعم .. قبل أن تلهب قلبي , وتمزق فؤادي , اضعها بين أقدامي , وبين ذرات الهواء أنثر ركامها المحترق .
نسمة الهواء تزاحم صمت ضحى , وتلهب من عباراتها .
سنوات الماضي وذكريات الحزن والألم الدفين , أحرقت قلبي , ومزقت فؤادي , وأخذت من زهرة شبابي .
ضحى .. ضحى .. ضحى .
نعم .
أقلبي صفحة الماضي وبدأي حياة جديدة .
لا .. لا .. لا .
لا أريد رياح الشروق تقلب صفحة الماضي .
بل تحمل ذراتها المتناثرة , ونسمات الفجر الهادئ تذرها في أعماق المحيطات .
رفع عقلي من صمته وتحاورا مع منطقه .
ما حجم الألم والحزن بين طيات هذه الأوراق ؟
وماذا عن الصور الممزقة والذكريات الأليمة بين قسمات الوجوه ؟
دموع ضحى المتناثرة .
هل تطفئ أحزانها ؟
وهل لهيب الذكريات الممزقة تخمد سنوات حزنها ؟
تدمع عيني رحمة لضحى .
لا .. لا.. لا .
ستبقى الذكريات الحزينة , وألم السنين كامنة في أعماق ضحى .
وأن مزقتها وأحرقتها , وأن غيرت حياتها .
ففي قلب ضحى جرح عميق أعمق من قاع المحيط .
لا تناثر الأوراق , ولا قبرها تحت ركام الدخان يقبر أحزانها .
تشرق ضحى مع شروق الشمس ببسمتها الدافئة .
تملك الدنيا ببراءة محياها .
اتعمق في بسمتها , ومعانيها قسمات طفولية .
من ينظر إلى معانيها , يبحر في عالم البراءة المشرقة بأفراحها .
كأنها عبق عبير الورد في ربيعه الدائم .
وفي أعماق عبيرها , تختزن أحزانها بصمت , وتعجز حروفها عن تعبير معانيها .
كبريائها الشامخ زادها بهاء , ولهيب الماضي أذاب لب فؤادها .
وأشعة الشمس تعكس بريق دمعتها .
ونسمة الهواء الهادئة تلاعب خصلات شعرها .
أنظر إلى كبريائها الممشوق , وأتعجب من صمت أحزانها .
تمايلت ضحى مع نسمات الهواء الصافية .
ويتلعثم لساني وهو ينطق اسم ضـ حـ ى .. ضحى .. ضحى .
أضمها إلى صدري , تتفجر دموعي أنهار جارية .
أمسك بيديها لأقبلها بحنان .
وتطبع القبلة على ورقة كانت بين أنامل ضحى .
دموعي قرأت حروف قصاصة الورق .
والحزن والألم لم ينهي نبضات قلب ضحى رغم تفريخه أعوام وأعوام .
ويصمت نبضها عند فرحتها وسعادة قلبها , والتي لم تدم لأكثر من سويعات .