جراحات على كفني
أوراق على المكتب تتطاير، وأقلام تتبعثر على أرض الغرفة.
أنهار أفكاري تجري، لا بل براكين وحمم تتدافع، وأنامل ترتعش، وعين حائرة.
لن أخبركم عن قلبي ومشاعره.
لن أخبركم عن شوق فؤادي، وحنينه لأبجديات حروفه.
وأقدامي التي عجزت عن حمل جسدي النحيل.
لم تتقدم خطوة واحدة، حتى لساني عقدة عليه عقدة من الأغلال.
وجراءة أذني ناقشتها بصدق المشاعر وحب الأنين.
ودموع المقلتين حفظت ألم السنين.
وعبير إحساسها نثر بين الممرات.
وتناثرت حروفي لتصبغ أوراقي البيضاء بألوان الآهات والحرمان.
بالعهود والمواثيق، لن تشع حروف حزنها إلا بعد أن تضم الثراء بأناملها الندية.
طفولة البراءة والعفوية، ومرح الفؤاد الصافي النقي، خربشت خطوط طفولتها المبكرة.
ويتفتح عقلها على العوالم.
ويتذوق إحساسها لوعة الفراق وألم الحرمان.
بخطوات ثابته أكملت عزيزة حياتها بدون سندها وعزها في الحياة.
ويطرق الفرح باب قلبها لتكتمل سعادتها.
تجمع حقائبها نحو المستقبل محملة بزهورها الندية، وعفوية وبراءة الطفولة بين يديها.
أحبت عزيزة حياتها الجديدة ورسمت لها خطوط الفرح والأمل.
تخطت عثرات الزمن، نظرت إلى فرحها... نظرت لشريكها كيف يدللها؟
قرأت علاقة الحب والألفة بين أغصان عشها الهادئ.
قرأت... وقرأت... وقرأت كل معاني الرحمة والمودة والصدق والنقاء.
قلبها الصغير حمله كل أحلامها الندية، واختزلها لمستقبلها.
حلقت كفراشة تزهو بألوانها في بساتين المستقبل.
قدمها اليمنى تتعثر وتنزلق في أعماق البحار المظلمة.
على الصخرة الصماء تتكسر أجنحتها، وتذبل ألوانها.
وتُزين معصمها وجيدها بلا.
بل سياج من لا زخرفت ظلمتها.
لتفرم أفراحها وتداس أحزانها وتقمع آهاتها.
عاشت عزيزة بين أحضان عشها كدمية بمرتبة الأكل والشرب فقط، بألوان رمادية مزخرفة بالسواد.
تذبل زهرات عزيزة بين ممرات الوحدة وسنوات العزلة.
وترتسم الفرحة على ركام الرماد، ويشع عمود النور الذي حلمت به ليضيء سماء ظلمتها.
وتجرفها الأيام إلى قطع الليالي المظلمة.
وتتكسر أجنحة أفراحها، وترفع دموعها عن مقلتها.
نظرت عزيزة في زوايا الغرفة.
سمعت صدى حروفها.
بكاء طفلتها أيقضها من أحلامها المتعثرة.
أمي... أمي... أمي.
أين أنا؟
أين نصفك الأخر؟
لماذا أمي أنت وحدك تتحملي معاناة الألم القاسية؟
أين من يخفف ألم الحمل؟
أين من يمسح دموع الفرح بقدومي؟
أين الحضن الحنون؟
أين من يتشرف أسمي بزخارف أسمه؟
أين... أين... أين؟
بأنامل مرتعشة من الضعف والألم، تهوي عزيزة على أرض الغرفة، كما هوت كل أحلامها في قاع المحيطات.
يصرخ قلبها الضعيف والحنون.
عزيزة... عزيزة... عزيزة.
أنت في بداية المشوار!
وحدتك وظلمة حياتك تضاعفت.
تسير عزيزة وبين ذراعيها فلذة كبدها.
وتسير معها أحزان وحدتها المزخرفة بزخارف المسؤولية.
في غرفتها المظلمة المزخرفة بزخارف الوحدة، نقشت عزيزة على جدرانها ضياع الإهمال، وتناثر المحبة والحنان.
تنظر عزيزة إلى أناملها الندية، تسمع صدى وحدتها تزين معصمها، وأنين قلبها يبهج وحدتها.
عزيزة أنت وحدك بين الكهوف المظلمة، هذه شراييني تضاء في سماء وحدتك ومسؤوليتك.
تقف عزيزة شامخة كشموخ الجبال، رغم رخوية الأرض، وبراكين فؤادها الملتهبة في نيران قلبها.
هشاشة الأرض، وبراكين وحدتها، لم تثني عزيزة، بل وقفت بشموخ وعزة.
وبعين البصيرة تحملت الانفصال العاطفي، وبرود المشاعر، والإهمال المتعمد، وتطاير الأبجديات على جسدها المثخن بالجراحات، عند أقل هفوة أو تقصير.
وتجر خلفها خيبات الحياة المتراكمة، وبيديها تمسك بنورين من فلذات كبدها.
وسياط أبجديات الحروف تسير بخطوات ثابته بين أقدامها.
تسير بجراح أقدامها الدامية من سياط حروف شريكها.
وينثر على أكتافها وسام الأب.
تضم عزيزة وسام الأب، كما احتضنت ألقابها المتعددة.
ألفت عزيزة وحدتها، وتصالحت مع أحزانها ومسؤولياتها.
يتسلل الشعر الأبيض، وتحفر الأقدار سنوات التعب والوحدة على جسدها النحيل.
وتنقش أبجديات وحروف شريكها الرنانة على شواطئ وحدتها.
تسبح عزيزة في بحرٍ من الهموم متوج بالوحدة ومزخرف بالمسؤولية.
قدر عزيزة أن تسبح عكس التيار، وتتعارك مع الأمواج بدموع مبتسمة.
وفي المنتصف وبالقرب من دوامة البحر، يختل التوازن وتفقد عزيزة مقدرتها على التحمل.
أسحب الغطاء الأبيض بهدوء.
وبصوت خجول.
من المريض؟
ماأسم المريض؟
ترتجف يدي وتتساقط دموعي، ولم تتحمل أقدامي جسدي.
نعم... نعم... عزيزة.
لم يتحمل قلبها المرهف بمشاعر الحب والحنان.
انهارت قمم الفضيلة أمام منتهى الأنانية والإهمال.
لم يكسرها المرض، ولم يثني من عزيمتها.
تنظر عزيزة بعزة وكبرياء شامخة ببصرها الحاد، لباب غرفتها تمني قلبها المتحطم، وتمسح دموعها حتى لاتحجبها عن النظر إلى فلذات أكبادها.
تستسلم عزيزة إلى وخزة أناملي لساعات محدودة من الزمن.
تصرخ دموعها بصمت، وينبض قلبها بحزنها المحفور على أنفاسها الضعيفة.
أين حقها المقموع؟
أين حقها المهدور؟
أين حق الأم؟
عزيزة أنها أقرب للشفقة والرحمة.
نعم هذا ماتتعطش إليه عزيزة الرحمة ممزوجة بالحنان.
هي بلسم وأكسير لأنفاس حياتها، لربما هذه القطرات الندية تلملم جراحات السنين وحسرت الألم.
شموخ عزيزة الأسطوري، دفن ألمها وأحزانها، وتقف بعزة تكمل خطوط وحدتها.
وتتناثر الأوراق بين أناملها تقلبها عزيزة.
تنظر لحروف وأبجديات أوراقها.
وتخطوا بين ممرات دوائر القضاة.
خبرت دموع عزيزة ومأساة أحزانها، أوقفتها أمام عمالقة القضاة والرتب الرفيعة، وقائمة من الشهود قادتهم رجولتهم لترديد حروف وأبجديات حفظت كقصيدة مدح أو تمجيد، وكسرت عيونهم وربطت برباط محكم عن النظر بعين الحقيقة.
وبين الممرات والدهاليز والأبواب المغلقة، توشحت عزيزة بخمار العفة والطهارة، وشقيق فؤادها فرش لها الطريق.
تغنت عزيزة عن أحزانها ومعاناتها بحروفها النورانية، وبمساندة شقيها ببصمته المتميزة، ولم يكن له نصيب من ألحانها، بل عزفتها عزيزة، في سمفونيتها الخالدة، عزفت أمومتها المهدورة، وحقوقها المصادرة، وعزفت إنسانيتها وكرامتها وكبريائها الممزق بأنامل شريك حياتها.
تدور الأيام والسنوات، وعزيزة مستمرة في تلحين ألحانها العذبة.
تختم عزيزة ألحانها بأغنيتها المتميزة، بتمزق الإنسانية وتناثر القيم والفضيلة، وتتكسر الطفولة أمام تجبر وكبرياء مثلهم الأعلى وقدوتهم ونموذجهم في الحياة، وتغرد بدموعها أنت أم برتبة جسد بشهادة بيضاء خالية من القيم الإنسانية والأمومة مختومة بقائمة من الممنوعات والمحظورات.
تاهت آلام عزيزة بين جسدها النحيل، كما تاهت وتناثرت أمومتها وحقوقها، وحقوق أبنائها في رسم البسمة على محاسنهم.
تذبل أزهارها من استنشاق الهواء المشحون بالضغائن وتسقيط أمومتها، وأمومة عزيزة أبت أن تنجرف إلى منحدر الوادي.
رقدت عزيزة بسلام على الصخرة الصماء، بعد أن دفنت كل مشاعرها وإنسانيها في قلبها الملتهب بنيران الفراق وألم الوحدة، مبتسمة لخالقها، متزينة بوشاحها الأبيض النقي كنقاء قلبها.