لحظة إبتزاز !!
في حياتنا اليومية ، نتعرَّضُ لأمورٍ كثيرة. قد ندرك البعض منها و لا ندرك البعض الآخر ، و نكتشف البعض منها و يخفى علينا البعض الآخر. من ضمن الأشياء التي قد نقع تحت وطأتها دون أن نعلم "الإبتزاز" . لِمَ لا نعلم؟! لأننا نمنح المال أحياناً ظناً منّا أنه مقابل خدمة تقتضي دفع هذا المال لمُسدي هذه الخدمة ، لكننا في واقع الأمر لا نعلم أن هذا الشخص قد تم تعيينه في هذه المهمة أو الوظيفة خصيصاً كي يقوم بهذه الخدمات لنا ، و في المقابل يتقاضى أجراً على ذلك. و بالتالي ، فنحن هنا قد وقعنا ضحية فخ "إبتزاز" نصبه لنا هذا الشخص الذي أوحى لنا أن ما يقدّمه لنا ما هو إلا خدمة خارج نطاق عمله ، و تستوجب منّا مكافأته لقاء هذه الخدمة ، و نحن بدورنا لن نتوانَ في فتح المحفظة و منحه حفنةً لا بأس بها من الريالات ، و لن نتورَّع عن إغداقنا مسامعه بسيلٍ هادرٍ من عبارات الشكر و الإمتنان لشعورنا أنه أسدى لنا معروفاً ليس مُلزماً به ، و منَّانا فضلاً سوف نبقى مدينين به لفترةٍ لا بأس بها من الزمن.
تعرَّضتُ كثيراً لهذا النوع من الإبتزاز المؤطّر بإطارٍ إنساني. و تحديداً في محطة القطار أثناء تنقّلي المستمر بين الأحساء و الرياض ، فتفاجأتُ بالإقبال الكبير و التنافس الشديد بين الإخوة "البنغال" العاملين في المحطة على الفوز بدفع عربات أمتعة المسافرين ، و عرفتُ السر وراء هذا التنافس بينهم ، و لكن ما لم أعرفه إلا متأخراً أن الإخوة البنغال في حال فوزهم بعربة أحد المسافرين و إيصالهم إياها للمقر المستهدف فإنهم يساومونه على الثمن ، و لا يرضون بأي مبلغ يُدفع لهم ، و إن قبلوا تحت تأثير إصرار المسافر الذي يرفض أن يدفع المزيد ، فإن قبولهم يكون على مَضَضٍ ، و تعتري وجوههم ملامح الحَنَق و الغضب.
في النهاية ، و بعد وقوعي تحت براثن ابتزاز هؤلاء البنغال مِراراً ، قرَّرتُ أن أتخذ موقفاً حازماً إزاء استغفالهم لنا ، و كانت الظروف وقتئذٍ مواتيةً ، فبعد أن دخلتُ من الباب المؤدي إلى صالة الإنتظار الداخلية ، وضعتُ أمتعتي تحت جهاز التفتيش ، ثم ذهبتُ للجهة الأخرى من الجهاز كي أستقبلها ، و لم تكن تلك الكبيرة التي تستدعي عوناً . و فجأة ، وجدتُ أحدهم يتلقَّف أمتعتي دون وجه استئذان ، و حاولت أن أنهاه لكنه أصرَّ أن يدفع عربتي ذات الحقيبة المتوسطة و الكيس البلاستيكي. مشى معي بضع خطواتٍ إلى أن وجدتُ مكاناً في صالة الإنتظار الداخلية التي تسبق ركوبنا القطار. و بعد أن جلستُ قلتُ له : شكراً. و بقي واقفاً على رأسي دون أن ينبس ببنت شفة ، عدت و قلت له : شكراً ، و لم يزل واقفاً . في النهاية قال لي : خلاص؟ ! قلت له : خلاص.. شكراً. و غادر مكفهراً متجهماً.
وصلتُ لقناعة بأن العملية ليس لها علاقة بالإنسانية ، و أن هنالك من يحاول اختلاق شيء من لاشيء حتى يوهمنا أنه قدّم لنا خدمةً تستحق مقابلاً. مستغلاً بذلك إنسانيتنا و إنعدام مهنيتنا و ثقافتنا في التعامل مع تلك المواقف و مرتكبيها. و قد علمتُ من أحد موظفي المحطة أن هناك فئة مخصصة من هؤلاء العمال لحمل أمتعة الركاب ، و هو بالتالي يتقاضى راتباً على ذلك مقابل عمله ، فإن شئتُ أن أمنحه بعض المال فهذا كرمٌ مني ، و لا يحق له مساومتي و إبداء تذمراً حيال المبلغ المدفوع ، و إن لم أرغب الدفع ، فليس هناك ما يلزمني بذلك ، ففي النهاية قد قام هذا الرجل بعمله الذي هو واجبه.
لم أكن عنصرياً قط ، بل أنا من مناهضي العنصرية و الطائفية و القبلية و كل ما يدعو لتبديد العلاقات الإنسانية ، و تفتيت الوحدة ، و أكره التقسيم و التمييز بين البشر ، لكنني تعاملتُ مع جنسياتٍ أخرى كثيرة ، و من ضمنها الفلبينية ، و لم أرَ ما رأيته من العمالة البنغالية في مختلف الميادين . فقد تعطَّلت سيارتي في إحدى المرات على طريق الرياض ، و وقف لي رجلٌ فلبيني بشاحنته العملاقة ، و ترجَّل منها كي يقوم بمساعدتي ، و عندما أنجز ما أتى من أجله ، ودّعني بالإبتسامة المعهودة التي تتميّز بها هذه الجالية ، و أستوقفته كي أعطيه أجر ما قام به ، لكنه رفض بإبتسامةٍ أيضاً ، فظننتُ أن خجله قد منعه ، فأعدتُ عليه العرض بإصرارٍ أكبر لكنه رفض مجدَّداً و همّ بالرحيل .
الثقافة الإجتماعية و التعليم الجيد و التربية على القيم يزرعون في الفرد ثماراً يانعةً يقطفها كل مَن يتعامل معه ، و يستطعمها أيما استطعام ؟! فقد تكون ظروف الفلبيني مساوية لظروف البنغالي إن لم تكن أسوء ، لكن نفس الفلبيني و خُلُقه تختلف عنها في البنغالي.