أبناء الذَوات
كلما لاحَت في مُخيّلتي ذكريات الدراسة في المرحلتين المتوسطة و الثانوية ، لا سبيل مِنْ أن أتذكّر أبناء الأغنياء أو (( أبناء الذَوات )) الذين كانوا جزءً مهماً مِنْ تلك الحُقبة يستعصي عليّ نسيانه ، فقد كانوا يتعاملون معنا نحن أبناء الفقراء وقتئذٍ بطبقيّةٍ مَقيتةٍ ، و إقصائيَّةٍ موجعةٍ ، و هم إن نظرتم إليهم نظرةً عميقةً ، فلن تجدوهم يملكون من حُطام هذه الدنيا شيئاً سوى أنهم أبناء الذَوات أو سلائل الحَسَب و النَسَب.
كانوا لا يُخالطون أيّ مَنْ كان ، و كانت لهم طقوسهم الخاصة في الفسحة ، حيث يتوارون في زوايا المَدرَسة التي اختاروها لتجمّعاتهم ، و يجعلون بينهم و بين بقية الطلبة مسافةً لا يُمكن لأي أداةٍ قياسٍ قياسها ، و كانوا يُجنّدون لهم بعض الطلبَة الفقراء ليقوموا بشراء الفطور بشكلٍ يومي ، و المُحزِن أنَّهم لا يتذكّرون أو لا يعترفون بزمالتهم لأولئك الفقراء إلّا في تلك الأثناء ، لأنهم لا يستطيعون أو لا يريدون خوض غِمار المعارك الشَعواء التي تنشُب كل صباح أمام شبَّاك المقصف المَدرسي ، فيضطرّون للاستعانة بالغير مقابل ثمنٍ بَخس.
لا أخفيكم ، فقد كنتُ أشعر بإمتعاضٍ شديد جرّاء تلك الطبقية التي لم تؤسَّس على فروقاتٍ علمية أو ثقافية أو فكرية ، بل نشأت و قامت على فارق المال !!.. لكنني وقتها كنتُ صغيراً ، و نظري لا يتعدَّى ظلّي ، و لم أكن أوقن حقاً أنَّ هذه السُحب لا بد و أن تنجلي يوماً ، و تتبدّل الكثير من المفاهيم و القناعات ، و أن مَنْ يحتمي بجناحيّ والديه صغيراً ، فإنه و إن طال به الزمان ، فلا بُد له أن يُحلِّق بجناحيه كبيراً ، و أنَّ مَنْ اعتاد على التحليق بجناحيه منذ صغره ، حتماً سيكون له فارق الخبرة و الثقة و المعرفة.
تمر الأيام ، و تدور عجلة الزمن بسرعةٍ فائقةٍ ، فنجد أنفسنا و هم قد كبرنا ، و بعد أن كانوا لا يروننا شيئاً لصِغر حجمنا في عيونهم المتأثرة بداء الطبقيّة التي يعانون منها ، ها هم اليوم يحتاجون لمُصغِّر كي يستطيعون رؤيتنا بحجمٍ تستوعبه عيونهم المُجرّدة ، فبعد أن فرضنا أنفسنا نحن (( معشر الفقراء )) بعلمنا و ثقافتنا و عصاميتنا ، و أصبحنا حقيقةً تُطاردهم أينما حلّوا و رحلوا ، و أينما أقبلوا و أدبروا ، أيقنوا أنه لا مَفرّ مما حققناه ، و إن كانوا يرونه كثيراً علينا ، فتجرّعونا حتى لو كان ذلك على مَضَض في بلاعمهم التي ضاقت بنا .