وجع الأماكن ..!!
-يُحدّثني بألمٍ ، و أُصغي إليه بشغفٍ ، بدأ حديثه قائلاً : هل تعلم يا رائد !!.. إنَّ في قلبي وجع الأماكن ، فدائماً ما أقفُ على أطلالها ، و استحضر ما جرى فيها أو عليها أو بها ، فعلى ذلك الرصيف كان يجلس والدي ساعاتٍ طوالٍ ، و على ذلك الكرسي الدوّار كان يفضّل الجلوس في تلك الغرفة ، و على ذلك السرير لفظ أنفاسه الأخيرة و قضى نحبه ، و تلك العَتَبَة شهِدت أول سقوطٍ لولدي الصغير عندما انزلق في الحمام فوقع عليها ففُتِقَ رأسه و تمت خياطته ست غُرَز ، و لا يزال يوجعني ذلك المطب الأشبه بالتل الذي كلما اعتليته تذكرت مكالمة صديقي عندما اتصل بي في إحدى مرات صعودي هذا المطب بسيارتي ، و تلقيتُ نبأ وفاته في اليوم التالي ..
- آآآآآهٍ يا رائد ( تنهيدة ) و يواصل : يُذكّرني هذا المبنى بذلك المُعاق الذي رمى به أباه في ذات المبنى و لم يراه لأكثر من عشرين سنة سوى ثلاث مرات ، و المرة الرابعة عندما استلم جُثَّته ميتاً ، و تُذكّرني هذه المزرعة بصاحبتها رحمها الله التي ورثتها عن أبيها و سطى عليها زوجها و على إثرها أصبح ثرياً و مِنْ ثم استعاض عن هذه الزوجة التي وقفت معهُ بثلاث زوجاتٍ غيرها ، يعيش معهن في خير الزوجة القديمة التي طلَّقها .
-و يعود مسترسلاً في وجعه الذي صبَّهُ عَلَيَّ صبَّاً : أترى هذا المسجد ؟!.. صرتُ لا أذهبُ للصلاةِ فيه ، لأن ثمَّة ذكرى مؤلمة تربطني به أيضاً ، و هي منظر الطفل الرضيع الذي وُجِد عند باب هذا المسجد في كرتون و الناس متجمهرة حوله و كأنه مخلوقٌ غريب قد حطَّ على أرضنا من كوكبٍ آخر !!
-أرأيت هذا البنك ؟!.. يذكرني بأحد المواقف الخالدة في ذهني ، ففي أحد مرات مراجعتي لهذا البنك ، كان هناك رجلٌ خمسيني يقف على شبّاك صرف النقود ، و في هذه الأثناء ، جاء عاملٌ آسيوي مسكين لنفس الشباك كي يزاحم ذاك الرجل الواقف من أجل أن يطلب صرفاً لما معه من فئاتٍ كبيرة ، فما كان من ذلك الرجل إلا أن زجره و نهره و ابتعد عنه مسافة قصيرة واضعاً طرف غترته على أنفه في إيحاءٍ منه على أن رائحة هذا العامل نتنة .
كان هذا المشهد على مرأى و مسمع عدد من العملاء امتلأت بهم صالة البنك . أتعرف يا رائد !! كان بودي أن أُقدِّم لهذا المتعجرف اقتراحاً و هو : ألا تود أن تتبادل مع هذا العامل المسكين الظروف و المهنة و من ثم سنأتيك لنشتم رائحتك ، هل ستبقى زكية كما هي الآن و تدعوك لكسر نفوس الضعفاء و التجبّر عليهم ؟ أم ستصبح أكثر نتانة منه ؟
-صَمَتَ قليلاً ثم عاد ليكمل : سأروي لك هذا الحدث الذي آرق منامي و قضّ مضجعي مِراراً و اعذرني لقسوته ، يا صديقي .. أترى هذا الشاب الذي يجلس هناك ؟!.. أَتَذَكَّرَهُ عندما كان في الخامسة من العمره و هو يمتطي دراجته ذات الثلاث عجلات و يدفع به منحدر الشارع الذي يسكنون به عنوةً كي يجد نفسه أمام سيارة جمع القمامة الضخمة فتدوس على ساقه اليُمنى فتهرسها هرساً . منذ طفولته و هو يعيشُ بساقٍ واحدة .