البعد الزمني في العلاقات العامة

لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، إلا ما ندر. هكذا علَّمتنا تجارب الحياة التي عايشناها بحلوها ومرها، ومن التجارب التي سمعنا بأدق تفاصيلها من أبطالها مباشرة، ومن بعض ما تم قراءته من تجارب الآخرين على صفحات الكتب، ولعل هذه سنة الحياة لكي تخبرنا بكشف أمر مهم في حياتنا، وهو فهم هندسة الحياة أو هندسة العلاقات العامة في بعدها الزمني والشخصي والاجتماعي. وعلى الرغم من حاجة كل شخص إلى شبكة علاقات عامة، لكون الإنسان خُلِق اجتماعيًا لا انعزاليًا، وذلك لأجل تحقيق سنة الله سبحانه وتعالى في تلبية حاجاتنا الحياتية لبعضنا بعضًا، بالآلية التي أشار إليها ربنا جل شأنه في كتابه الحكيم، حين قال في سورة الحج، آية 40: ”وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ“.

وحسب تفسير هذه الآية الكريمة في الميزان، المراد بدفع الله الناس بعضهم ببعض أعم من القتال، إلا إن دفع بعض الناس بعضًا ذبًا عن منافع الحياة وحفظًا لاستقامة العيش سنة فطرية جارية بين الناس، والسنن الفطرية منتهية إليه تعالى، ويشهد به إعداد الإنسان كسائر الموجودات بأدوات وقوى تسهل له البطش، ثم بالفكر الذي يهديه إلى اتخاذ وسائل الدفع والدفاع عن نفسه أو أي شأن من شؤون نفسه مما تتم به حياته وتتوقف عليه سعادته.

إذن، نفهم من الإشارة بالدفع تبادل المنافع الحياتية بين البشر، وكل يكمل الآخر بما لديه من صنعة أو أي شيء آخر يرتبط بشؤون الحياة اليومية في حاضرها ومستقبلها، ويبقى السؤال المهم الذي ينبغي أن نطرحه على أنفسنا وينبغي علينا أن نفهم إجابته: ماذا تعني العلاقات العامة؟

مفهوم العلاقات العامة يطلق عليه فن التعامل مع الناس بهدف نيل رضاهم، ومفردة ”فن“ تعني المهارة، والمهارة ليست اكتسابًا فحسب، بل تحتاج تعلمًا وفهمًا وممارسة عملية على أرض الواقع، وهذا يتم عندما يخضع الشخص نفسه إلى الاحتكاك المباشر مع الناس أو الجمهور بمختلف طبقاتهم وأفهامهم وثقافاتهم وأجناسهم، عندها شيئًا فشيئًا تتشكل ”المهارة“، أي فن الاكتساب، واكتساب الآخر الذي يؤهله فيما بعد لأن يكون شخصية ذكية اجتماعيًا وماهرة وجاذبة في صناعة علاقات عامة ناجحة ومستمرة ومتينة وقوية وطويلة المدى، ليست معرضة للنسيان، بل تظل محفوظة في الذاكرة البشرية ربما طوال الحياة.

هل هناك أسس لصناعة علاقات عامة ناجحة؟

في ظني، هذا أهم سؤال نوجهه لأنفسنا أولًا قبل غيرنا، ما هي الطريقة المثلى التي توجهنا لكي نكون ناجحين في علاقاتنا مع الناس بمختلف طبقاتهم وثقافاتهم وأعراقهم ودياناتهم وأشكالهم ولغاتهم؟

الله سبحانه وتعالى عندما خلق البشر لم يتركهم سدى دون وضع قواعد وأسس حياتية وغريزية متوافقة مع الطبيعة البشرية لكي يتعايشوا مع بعضهم بعضًا؛ لأن الإنسان من طبيعته خلق اجتماعيًا، فلا بد له من آلية معينة تدعمه في عملية الانخراط في الوسط الاجتماعي، كما للحيوانات غرائز مختلفة في طريقة عيشها مع بعضها بعضًا ومع المختلف عنها من المخلوقات الأخرى، فهناك، كما نعلم، حيوانات يطلق عليها الحيوانات الأليفة التي تشعر تجاهها بالأمان وتتعايش وتتكيف مع الإنسان بطريقة ودية دون أن تضره ولو بمقدار جناح بعوضة، وهذا النوع من الحيوانات غرائزه تكون قابلة للتعايش مع الإنسان دون أن تضره، بمعنى ليس لديها حالة عدوانية مع الإنسان ولا غير الإنسان، وهناك نوع من الحيوانات أساس خلقتها عدوانية، بل هي غريزة فيها لا يمكن تعطيلها حتى لو روضتها لفترة من الزمن، إلا أنه تبقى حالة العدوانية الغريزية متعمقة في وجدانها؛ لأن ذلك شيء ضمن مكونات خلقتها الطبيعية، وقد شاهدنا الكثير من القصص المؤلمة مع أصحاب رياضة السيرك التي تحيطها المخاطر مع مربي الحيوانات المفترسة كيف كانت نهايتهم المأساوية معهم.

إذن، نرجع إلى السؤال المهم وهو: كيف نحقق علاقات اجتماعية خاصة أو عامة ناجحة ودائمة؟ والجواب على ذلك في قول الله تعالى: ”وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا“ «سورة البقرة، آية 88».

وعن الإمام أبي جعفر في قوله تعالى: ”قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا“، قولوا للناس ما تحبون أن يقال فيكم.

وفي الكافي أيضًا عن الصادق قال: قولوا للناس ولا تقولوا الأخير حتى تعلموا ما هو.

وعن الباقر قال: قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإن الله عز وجل يبغض السباب اللعان الطعان على المؤمنين الفاحش المفحش السائل، ويحب الحليم العفيف المتعفف.

وغيرها من الأقوال الواردة عن أهل العترة الطاهرة التي تؤكد وتعزز قاعدة التعامل مع الناس وهي قول الحسن أو ”حسنًا“، وحسنًا هي مضاعفة الإحسان واللين للطرف الآخر، وبهذه القاعدة تستطيع اختراق قلوب الناس وكسب رضاهم، وما نسمعه من فشل البعض في علاقاتهم العامة أو الخاصة أو مع الجمهور هو ناتج عدم فهمهم واستيعابهم لقاعدة الحياة التي سنها الله سبحانه وتعالى وطبقها أنبياؤه ورسله والأئمة الأطهار ، وهي قاعدة قول الحسن، وفي طريقة تبليغ أنبياء الله موسى وهارون إلى طاغية زمانه فرعون، أمرهم الله بهذه القاعدة، وهي السنة الإلهية، ومن حاد عنها فأمره للفشل الحتمي.. ”فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى“ «سورة طه، آية 44».

فالقول اللين يرقق القلوب ويحطم الحاجز النفسي بين الداعية والمدعو، وكما عبر عنه في تفسير الميزان عن قوله تعالى: ”فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى“، المنع من أن يكلماه - أي فرعون - بخشونة وعنف وهو من أوجب آداب الدعوة.

وهاتان هما القاعدتان الأساسيتان للمحافظة على علاقاتنا العامة والخاصة مع الناس والجمهور لفترة زمنية أطول أو علاقات دائمة، قاعدة قول الحسن وقاعدة القول اللّين، وهي كذلك تعتبر جرس تنبيه إلينا بين الفينة والأخرى فلا ينبغي الميل عنهما أو إيجاد بدائل أخرى عنهما.

كاتب رأي، وموظف في القطاع المصرفي.