ما بين ثقافة المنشأة ونظم الموارد البشرية وحقوق الموظفين
بعد تجربة طويلة في مجال العمل، ومع تنوع الجهات والمواقع التي عملت فيها، تبينت لي رؤية ومعلومات وخلفيات عن اختلاف طبيعة العمل في كل منشأة عملت فيها، سواء على الصعيد الإداري أو الإجرائي. علمًا بأن تجربتي العملية تصب كلها في القطاع الخاص، دون القطاع العام المرتبطة إجراءاته بجهاز الدولة مباشرةً. ولأني لم أعمل في القطاع العام، فلا أمتلك المعلومة الأكيدة عن طبيعة الإجراءات والسياسات وطبيعة العقود التي تُلزم الطرفين بالالتزام بما هو وارد فيها، بل حتى لا أستطيع المقارنة بينهما، وذلك بسبب افتقاري للممارسة العملية في القطاع العام كما أسلفت.
ثقافة المنشأة التجارية
قبل أن أبدأ العمل في القطاع الخاص، كنت أحمل تصورًا بأن النظام فيه موحد، وتندرج تحته ثقافة موحدة في كل القطاعات التجارية دون استثناء. بمعنى أن كل السياسيات والإجراءات الإدارية، بما يخص المنظمة والموظفين، موحدة، وأن العدالة محققة أو قريبة منها، وأن المنشأة التجارية تحكمها نظم عليا مبنية على ثقافة صلبة تُنصف فيها الحقوق بين الطرفين بشكل واضح وشفاف وأكثر عدالة. ولكن ما اكتشفته فيما بعد، هو أن كل منشأة عملت فيها كانت تُدار بثقافة مختلفة عن الأخرى، إما بثقافة مُلاكها أو من يُديرها، سواء على شكل فرد بمنصب عالٍ، أو فريق عمل يحمل ثقافة معينة. بغض النظر عن النظم والقوانين المُلزَمين بها وبتنفيذها وتطبيقها داخل دوائر هذه المنشأة، يغلب عليهم تطبيق رؤيتهم واجتهاداتهم الشخصية. وغالبًا ما تكون هذه الاجتهادات ليست متوافقة مع النظم الإدارية القريبة للعدالة بين الموظف والمنشأة والمنتج. وسوف أوضح الفكرة عن طريق طرح مجموعة من الأسئلة؛ لكي نقترب من فهم بيئة القطاع الخاص عبر هذه التساؤلات:
* السؤال الأول: هل العمل في القطاع الخاص مبني على نظام وثقافة موحدة وواضحة، أو أنها خاضعة حسب ميول ثقافة القائد الذي يقف على رأس الهرم؟
* السؤال الثاني: هل ثقافة المدير التنفيذي للمنشأة التجارية لها تأثير مباشر على المنشأة والعاملين فيها؟
* السؤال الثالث: لمن تخضع دائرة الموارد البشرية الخاصة بكل منشأة؟ هل للأنظمة والسياسات والإجراءات واللوائح المرسومة من قبل وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية؟ أم أنها تقعدتحت سطوة الإدارة العليا ورغبات المدير التنفيذي أو الفريق الإداري المعين لإدارة المنشأة؟ وبهذا، يقتصر دورها على الجانب التنفيذي، لا كجهة توجيهية وتطويرية واستشارية، لرفع مستوى الإنتاجية وتحسين جودة العمل في كل دوائر المنشأة، فضلًا عن حمايتها لحقوق العاملين فيها وزيادة تطويرهم مهنيًا وفكريًا وثقافيًا؟
* السؤال الرابع: ما هي العلاقة التي تربط الموارد البشرية بالموظفين؟
هذه الأسئلة وغيرها، ربما ينبغي الوقوف عندها ومناقشتها بشكل شفاف وواضح؛ لكي نصل إلى نتيجة تكشف الملابسات والغموض الذي قد يتولد عند المنتسبين للمنشأة الذين يعملون فيها، وما يعكسه من مؤثرات إيجابية أو سلبية على المنشأة والموظفين والإنتاجية.
نبدأ بالإجابة عن السؤال الأول والثاني، بما أني لامسته طيلة فترة عملي التي أمضيتها في القطاع الخاص. وهذا يحتاج إلى مقدمة مختصرة قبل الإسهاب في الإجابة عن الأسئلة المطروحة للمناقشة.
بلا شك، إن كل القطاعات العامة والخاصة خاضعة إلى توجيهات الدولة، وبالتحديد وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، بعد صدور الأمر الملكي الكريم رقم أ/455 القاضي بضم وزارتي الخدمة المدنية والعمل والتنمية الاجتماعية في 1441 هـ - 2021 م.
وقد نلامس في كل منشأة مظاهر هذه التعليمات والسياسات والإجراءات، ولكن عندما نغوص في عمق هذه المنشأة، سنكتشف أن المنشأة تُدار خلاف الظاهر، بعيدا عن الإجراءات والنظم الموضوعة من قبل وزارة الموارد البشرية. وذلك بسبب من يُدير المنشأة أو المنظمة، ويفرض عليها العمل بإجراءات مخالفة، باعتباره مُعينًا في منصب قيادي داخل المنشأة تحت مسميات وعناوين إدارية عليا يصعب الوصول إليها. وهي في الغالب اجتهادات مزاجية ليس لها واقع في نظام العمل، كالاستغلال الشخصي لموارد الشركة، وهي خاضعة تحت تأثير الثقافة القبلية، أو المناطقية، أو المذهبية، أو الدينية. كل هذه المسميات الفاسدة وغيرها، إذا كان المدير العام، أو الرئيس التنفيذي، أو من هم تحت إدارتهم يتبنونها، فهؤلاء هم من يُحطم مستقبل المنشأة وأهدافها العليا وتطلعاتها المشرقة. هذا النموذج الإداري المخالف لنظم وإجراءات وزارة الموارد البشرية والتنمية البشرية في بعض المنشآت، ينتج عنه نشوء البيئة الإدارية الفاسدة، بل القاتلة للطاقات البشرية. وزد على ذلك، إذا كان القائد لإدارة الشركة بعيدًا عن ثقافة وفهم الإجراءات والنظم المنصوصة من قبل وزارة الموارد البشرية، فهذا مما يزيد الطين بلة، بل يخلق مساحة واسعة من الفساد في داخل المنشأة، مما يسمح بتشكيل لوبيات تدعم بعضها بعضًا لحماية مصالحهم الشخصية على حساب مصالح المنظمة.
الإجابة عن السؤال الثالث، كذلك يحتاج إلى مقدمة بسيطة. بعد تفعيل أهمية دور الموارد البشرية في القطاع العام والخاص، على اعتبار أن هذه الجهة تُحاكم سياسة العمل والعمال وفق نظام تم إعداده وتنظيمه من قبل وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية. علمًا بأن تخصص الموارد البشرية أصبح تخصصًا أكاديميًا يُدرس في الجامعات، وتم اعتماده في الجامعات السعودية قبل إحدى عشرة سنة تقريبًا، ورفع درجته العلمية الأكاديمية من دبلوم إلى بكالوريوس. وعلم الموارد البشرية له مهام متعددة ومتفرعة، وليس فقط كما عُرف عنه بأن دوره محصور في التوظيف بانتقاء أجود ما في سوق العمل من كفاءات علمية وعملية خبيرة، ومن ثم تأهيلهم وتطويرهم والاستفادة منهم في رفع الكفاءة الإنتاجية والربحية للمنشأة فحسب، بل له أعمال أخرى ومهمة، كمتابعة سير الموظفين في المنشأة، وما لهم وما عليهم من حقوق وواجبات والتزامات. كذلك، هي جهة محايدة وفيصلية، ومتصلة اتصالًا مباشرًا مع الموظفين ومختلف دوائر المنشأة، أي أنها جهة مسؤولة عن الموظفين. ومن المفترض ألا تكون خاضعة لاعتبارات أي شخص قيادي داخل المنشأة، بل تكون متحررة من سطوة الإدارات العليا، حتى تقوم بواجبها وبعملها وفق النظم والتعليمات والإجراءات المقررة من قِبل وزارة الموارد البشرية والتنمية البشرية. فالوزارة بمثابة الجهة القضائية، أو السلطة الثالثة في المنشأة.
الإجابة عن السؤال الرابع، وفي ظني كذلك يحتاج قبل الخوض فيه لإيضاح، هذا العنصر الأخطر والأهم في داخل كل منشأة، باعتباره يُمثل الداعم الروحي والنفسي للموظفين ولخط الإنتاج.
الموظفون هم النواة الأولى والثروة الحقيقية لكل منشأة تجارية، بل هم رأس المال الحقيقي وصمام الأمان لكل عمل تجاري. إن استطاعت المنظمة المحافظة عليهم عن طريق زرع الولاء فيهم، فهذا يُعتبر أكبر نجاح حققته الإدارة في داخل المنظمة. ولاء الموظفين أمر بالغ الأهمية في مكان العمل؛ لأنه يُعزز الشعور بالاستقرار والثقة والمنفعة المتبادلة بين الموظفين، والشراكة المتبادلة بينهما. كما أن الموظفين المخلصين أكثر تفاعلًا وإنتاجية والتزامًا بتحقيق الأهداف التنظيمية. وخسارة أي كفاءة بشرية بمثابة خسارة مالية كبيرة؛ لأنها هي من صنعته بمالها ووقتها. وإن تجاهلت هذا العنصر الحساس، فهذا يعني أن هناك خللًا في الإدارة والقيادة. كل منشأة تجارية قد يُكلفها الكثير من المال والجهد والعمل على أن تصنع رأس مال بشريًا في داخلها. وإذا خسرت جزءًا منه، يعني خسرت مقابله جزءًا من أصولها، ونالت ضعفًا في الإنتاجية والربحية. لهذا، كل منشأة تجارية ناجحة تعول على رأس مالها الحقيقي، وهو العنصر البشري، ألا تخسره، بل تحرص على الحفاظ عليه لكي تستمر في خططها الإنتاجية والربحية وفي مستقبلها.
ومن هذا المنطلق، تحرص إدارة الموارد البشرية في كل منشأة أو منظمة أن تكون قريبة، بل وسهلة الوصول إليها، بل ينبغي أن تكون أبوابها مُشرعة لكل الموظفين داخل المنشأة، لمعرفة أحوالهم الشخصية والوظيفية أولًا بأول. بل تقوم بين الفينة والأخرى على دراسة أوضاعهم الوظيفية والمالية والمستقبلية، وخصوصًا في المتغيرات الاقتصادية والأزمات المالية، لكي ترفع منسوب الولاء للمؤسسة عندهم.
ومن المهام الرئيسية للموارد البشرية، دراسة سوق العمل، والحراك الاقتصادي الحاصل في السوق، فضلًا عن المهام الأخرى التي ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالموظفين، والوقوف معهم لحل كل العوائق العملية التي تُصادفهم أثناء عملهم داخل المنشأة. باعتبار أن موظفي الموارد البشرية هم المسؤولون بالدرجة الأولى عن الموظفين وعن أحوالهم، بل ينبغي عليها توفير سبل الراحة إليهم، حتى يستمروا في تحسين إنتاجيتهم وكسب ولائهم للمنشأة، فهم المحرك البشري الأول. وهذا ما يضع الموظفين أمام خيار صعب عند حالة التخلي عن المنشأة عبر العروض والمغريات الخارجية. وهذا يُمثل شعورًا لدى الموظفين بأن إدارة الموارد البشرية هي الحاضنة، بما تُمثله من دور فاعل ومهم في استمرارية الرغبة في البقاء داخل المنشأة أمام المغريات الوظيفية الخارجية. ويعود هذا الفضل آنئذ إلى دور الموارد البشرية، حيث استطاعت إشعار الموظفين بأنها السند الحقيقي لهم والظهر الذي يستندون عليه، والحماية من قمع بعض الإداريين غير الأسوياء، والذين يُعرقلون سير المنشأة ونجاحها في الداخل والخارج.
فالعلاقة بين إدارة الموارد البشرية والموظفين، يُفترض أن تكون وثيقة ومتينة وشفافة وواضحة للغاية. وهذا هو الدور الطبيعي الذي ينبغي أن يكون بين الجهتين، ولا يُسمح لأحد أن يُفسد هذه العلاقة الحميمية، مهما كان منصب من يعمل داخل المنشأة أو المنظمة. وإفساد هذه العلاقة بين الطرفين يعني تحطيم المنشأة من الداخل والخارج، وهو ما قد يُسبب لها انحدارًا وسقوطًا صاروخيًا مُدمرًا، وربما تصل إلى هاوية الإفلاس والنسيان من ذاكرة السوق والعمل التجاري.