شهر رمضان صناعة أخلاقية
قال الله تعالى في كتابه الحكيم: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» سورة البقرة: 185.
مع حلول شهر رمضان المبارك تستعد الذاكرة لاسترجاع الذكريات الرمضانية الجميلة والسعيدة التي يختزلها كل منا في ذاكرته، إذ إن هذه الذكريات في هذا الشهر الكريم تظل مميزة ومحفورة في ذاكرتنا إلى الأبد، ومتصلة بمراحل العمر منذ الطفولة حتى الكهولة وبماضٍ جميل وحاضر مزهر مع أفراد العائلة والجيران والأصدقاء وفي الأحياء التي هُجرت وفي الأحياء الذي ازدهرت بسكانها.
شهر رمضان المبارك تفرَّد بمناسبات عديدة عن بقية شهور السنة كشعيرة الصوم واختلاف الحياة وكثرة الشعائر الدينية بمختلف أنواعها بدءًا بتلاوة القرآن الكريم وحضور المجالس الحسينية وكثرة اللقاءات الاجتماعية بشتى أنواعها، بل حتى المطبخ الرمضاني مختلف عن المطبخ اليومي في بقية أيام السنة، فالأطباق الرمضانية مختلفة تمامًا عن الأطباق في بقية الشهور السنة فضلًا عن التنافس في الطهي الحاصلة كل عام بين العوائل والجيران.
والأحاديث الذي تدور بين بطلات المطبخ الرمضاني حول كل طبق سواء كان من الأطباق القديمة أو الأطباق الحديثة المصاحبة لكل عصر، وهذا ما يضفي على شهر رمضان المبارك أجواء مميزة يختص بها هذا الشهر الكريم، وزينة هذا الشهر الكريم الشعائر العبادية المختلفة والكثيرة بدءًا بالاهتمام بتلاوة القرآن الكريم والتفكر والتدبر في آياته وهو الطريق لمعرفة الله سبحانه وتعالى.
هدفية العبادات بكل عناوينها وأشكالها التي فرضها علينا ربنا من الواجبات والمستحبات وبقية إحياء السنن جلها تصب لأجل هدف واحد؛ وهو تحقيق عنصر الأخلاق وتجسيده في كل جوارحنا، ولا يتحقق هذا الهدف السامي إلا إذا أحسنَّا أداء هذه الفرائض العبادية بالشكل الصحيح والمطلوب وقمنا بها بما يرضي ربنا سبحانه وتعالى لا كما ترضينا، حتى نندرج في قوله تعالى: «وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ». هذا هو المبتغى الإلهي الذي يريده ربنا القدير أن نتحلَّى به معه وبين عباده وبين جميع مخلوقاته.
والشهور الروحية التي تمهِّد إلى شهر رمضان المبارك من شهر رجب الأصب وشعبان المبارك هي دورة تمهيدية وتدريبية روحية ومعنوية لكي نهيِّئ بها أنفسنا، ونصعد بها سلالم الروحانية التي بدورها تؤهلنا لاستقبال شهر العبادة والتضرع والخشوع لله سبحانه وتعالى؛ لكي تكشف لنا أنفسنا وتكاشف عيوبنا أمامنا كمرآة صافية نرى فيها كل تلك التشوهات الأخلاقية التي نمارسها في حياتنا؛ من أجل إزالتها وتصحيح مسار حياتنا من جديد للننعم بحياة صافية نقية من كل التشوهات العبادية والأخلاقية.
إذًا، عند استقبالنا لشهر رمضان المبارك يتوجب علينا أن لا نفوِّت الفرصة ونضع أهدافًا رئيسية تغييرية في حياتنا بتصميم وإرادة ينبغي تحقيقها في أثناء هذا الشهر الكريم وإن واجهتنا بعض الصعوبات والتحديات، حتى لا تتصرم أيام هذا الشهر المبارك التي تمر علينا بسرعة البرق دون الاستفادة من تلك الأيام المباركة. يقول لنا: لا تضيع الفرصة عليك فإني شهر خلقته للاستثمار الإلهي لا لِلَّعب؛ حتى نومكم فيه عبادة بل حتى أنفاسكم فيه تسبيح لله سبحانه وتعالى، ولا مجال لضياع الوقت فيه لو لمقدار الثانية.
ولكي نحقق الأهداف الإلهية السامية والراقية في هذا الشهر المبارك الذي عززه الله دون الشهور وتَوَجَّهُ بمناسبات عديدة أولها نزول كتابه الكريم على قلب رسوله الكريم المصفى محمد ، وفرض فيه الصيام وهي العبادة المخصوصة لرب العالمين دون العبادات الأخرى التي هي للعباد حيث ورد في الحديث الشريف ”كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدمَ لَهُ إلَّا الصِّيامُ؛ فَإِنَّه لي وَأَنَا أُجْزِي بِهِ“.
إذًا، شهر رمضان المبارك هو منحة إلهية تغييرية وفي الوقت نفسه هو دورة دينية وأخلاقية وروحية وفكرية لتنقية الإنسان من الشوائب والملوثات الأخلاقية والسلوكية والفكرية، ودورة تربوية روحية ينبغي استغلال كل لحظة تمر علينا في هذا الشهر الفضيل، وأن لا نترك لحظة واحدة في عبث وضياع وتغافل عن أهمية دور شهر رمضان المبارك في حياتنا، فهو كسلة الفواكه في أشكالها المختلفة والجميلة وفوائدها المتنوعة الدنيوية والأخروية وقد لا تتكرر «لا سمح الله».
لهذا ينبغي أن نحرص كل الحرص على استغلال هذا الشهر الفضيل والاستفادة منه في كل لحظة بانشغالنا بالاستغفار وذكر الله في آناء الليل وأطراف النهار دون ملل أو كلل، وهذا لا يكون إلا بتنظيم أوقاتنا فيه عبر صناعة برنامج عبادي روحي بدءًا من تلاوة كتاب الله كاملًا بتفكر وتدبر فيه، وهي فرصة ذهبية لتخصيص وقت يكون فيه الإنسان بكل وجدانه مع القرآن الكريم ليكتشف المعاجز الإلهية الغائبة عنه، فالمحروم من حُرم منه طوال حياته.
وهناك العبادات الأخرى من الصلوات والأدعية التي تفرغ الشحنات السلبية من أعماق الإنسان واستبدلها بطاقة إيجابية يعيد فيها الإنسان حيويته الروحية والفكرية والجسدية، وهناك تأكيد إلهي على أهمية دور الدعاء وهو الرابط للعلاقة الوثيقة بين العبد وربه، هناك وعد إلهي بالاستجابة عند قوله تعالى: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ».
الزبدة من كل ما نريد أن نصل إليه من الاستفادة عند توفيقنا لشهر رمضان المبارك أن نحسن فيه أخلاقنا مع ربنا ومع أنفسنا ومع من يدور في فلكنا عبر تزكية عبادتنا وتنقيتها من الشوائب؛ لأن خلاصة العبادة النقية لله سبحانه وتعالى إظهارك بثوب جميل من الأخلاق العالية والرفيعة التي تعبر عن قبول الأعمال؛ لأنها أحدثت تغييرًا حقيقيًا في وجداننا، ولو لم نشعر بذلك التغيير الحسن ينبغي إعادة النظر في كل ما أديناه في شهر رمضان المبارك ما دام لم يحدث أي تغيير طرأ على تفكيرنا وسلوكنا ومعاملاتنا، وهي خيبة أمل وما حصدنا في شهر رمضان إلا التعب والجوع لا غير.