مع البر والأبرار «3»
ذهب صاحب التحقيق إلى أن البر ”هو حسن العمل في مقابل الغير، وهذا المعنى يختلف باختلاف الأشخاص والموضوعات والموارد. فالبرّ من اللَّه المتعال بالنسبة إلى عبيده: هو الإحسان إليهم واللطف والتجاوز عن خطيئاتهم. ومن العبد في مقابل الخالق المتعال: هو الطاعة وامتثال الأمر والعمل بوظائف العبوديّة. ومن الوالد بالنسبة إلى أولاده: هو التربية والتأمين والقيام بأمورهم وحوائجهم. ومن الولد إلى الوالد: هو الخدمة والخضوع والرحمة. والبرّ في الكلام: هو الصدق وقول الحقّ. وفي العبادة: أن يأتي بها مقرونة بالشرائط وعلى ما يريده اللَّه تعالى ويطلبه“.
ويؤيد هذا المعنى العديد من الآيات كقوله تعالى: «إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ» وقوله: «وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا» وقوله: «بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ» وقوله: «وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ» وغيرها.
ومهما اختلف المفسرون في معنى البر والأبرار، فإن الجميع متفقون على كون الأبرار أصحاب مقام رفيع في الجنة أشار له القرآن حين قال: «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ» وقال عن كتابهم: «كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ. كِتابٌ مَرْقُومٌ. يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ» في الوقت الذي قال عن كتاب الفجار: «كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ «7» وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ «8» كِتابٌ مَرْقُومٌ». أما بعض تفاصيل نعيمهم في الجنة، فقد ذكرها القرآن في قوله: «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ. تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ. يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ. خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ. وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ. عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ» وفي قوله: «إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً. عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً».
ولنا مع آيات النعيم هذه وقفتان:
الأولى: تركز الآيات على ما يُسقاه الأبرار وما يشربونه، مع ذكر بعض تفاصيل السقيا والشراب. فهم «يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ»، وفي «يُسْقَوْنَ» دون «يشربون» إشارة إلى أن هذه خدمة راقية تُقدَّم لهم إكراما وإجلالا. أما الرحيق فهو اسم للخمر الطيبة الصافية الخالية من كل شوب وكدر «يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ. لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ». وهذا الرحيق مختوم أي أنه محكم الإغلاق بختم لا يفتحه إلا أهله، كأن الختم إشارة إلى أن الرحيق صنع خصيصا للأبرار بعناية خاصة. ثم إن الختم عجيب أمره، فهو مسك، أو أن ختام الرحيق أي نهايته مسك. يضاف لذلك أن الرحيق ممزوج مخلوط ب «تسنيم» التي هي عين «يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ». كما أنهم «يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً».
الثانية: هذا الشراب المخصوص يدل على المنزلة القربية العالية للأبرار عند الله، لأنهم يُسقون رحيقا ممزوجا بتسنيم التي «يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ»، ويشربون من كأس ممزوجة كافورا «عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً» وفي الرواية أنها ”عين في دار النبي تتفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين“. فتأتيهم هذه الإفاضات من الله تعالى بواسطة عباد الله المقربين الذين قال الله عنهم «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» وفي ذلك ما فيه من الرفعة والعلو لشأن الأبرار.