إعادة الاعتبار للوعظ والواعظين
من بين المفردات الجميلة التي تعرضت لتشويه كبير حتى كادت أن تكون عند البعض مرادفة للخطاب المتخلف الذي لا يواكب عصره، ويمتهنه المفلسون من المعرفة والمهارة والحكمة، مفردةُ الوعظ وما يتصل بجذرها من مفردات. ولست هنا بصدد مناقشة الأسباب التي أدت إلى ذلك، فبعضها متصل بالوعّاظ أنفسهم، وبعضها بأطراف أخرى سعت بشتى الوسائل إلى إبعاد الناس عن الموعظة والواعظين، كي تملأ فراغهم وعقولهم ونفوسهم بما تريد.
الوعظ كما في لسان العرب هو النُّصْح والتذْكير بالعَواقِب، وفي كتاب العين: وعظتُ الرجل أعِظه عظةً وموعظةً: واتّعظ: تقبل العظة، وهو تذكيرك إياه الخير ونحوه مما يرق له قلبه. وقال صاحب مقاييس اللغة: فالوعظ التخويف.
وربما يلاحظ من خلال بعض السياقات القرآنية أنها كثيرا ما ترد في موقع الزجر والتخويف من المآلات، كما في قوله تعالى: «فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» وقوله: وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» وقوله: «يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ».
الموعظة لها شأن كبير عند من يعقلها ويأخذ بها، فالقرآن نفسه موعظة للمتأهلين للاتعاظ بهديه، كما قال الله عنه: «هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» وقال: «ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» وقال: «يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» وقال: «وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ».
والموعظة ليست بالمهمة السهلة اليسيرة، بل هي مهمة الأنبياء والمصلحين الذين يسعون لإيقاظ الناس من نومة الغافلين، وينبهونهم للأخطار التي تنتظرهم، ويبينون لهم كيفية تداركها «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» سالكين في ذلك أحسن السبل وأهداها، متبعين في ذلك قول ربهم: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ».
فهذا سيد الواعظين ورحمة الله للعالمين يأتيه الأمر الإلهي: «قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ»، وهذا نبي الله هود يعظ قومه قائلا: «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ». وهذا لقمان الحكيم يقدم الوعظ لابنه مربيا ومرشدا: «وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ».
فالموعظة الحسنة سيرة متصلة فيهم جميعا «لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً» لأنها الطريقة المثلى لإبلاغ مجتمعاتهم ما يريدون لهم من خير: «وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً». فالوعظ في نهاية المطاف رسالة محبة لا يتقنها إلا من أوتي الحكمة «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً».
والموعظة البالغة هي تلك التي تنطلق من معرفة عميقة بالموضوع والمخاطب والظروف المحيطة، وتخرج من قلب يغمره الإخلاص وصدق النية، فعند ذلك تفعل فعلها، وتؤثر أثرها في النفوس.
فما أحوجنا لممارسة الوعظ، وما أشدّ فقرنا للواعظين الواعين في كافة المجالات وعلى مختلف المستويات.