لقطة عن شاعر (5)

 

 

شاعرنا لهذه السلسلة اليوم غنيٌ عن التعريف ، فهو شاعر الأرض و التراب ، و التغني بالوطن السليب ، محمود درويش ( 1941- 2008 ) الذي رحل عن عالمنا ، تاركا فراغا فكريا و ثقافيا كبيرا بين جمهوره الذي كان يزحف زحفا لأمسياته الشعرية في عمان أو بيروت أو دمشق أو القاهرة و غيرها .

ولد محمود درويش لأب كان يعمل مزارعا في أرض يعمل عليها ، صادرها الاحتلال لاحقاً ، و كان خروجه للنور في قرية البروة ، بالقرب من ساحل عكا بفلسطين المحتلة ، فتَهجَر مع والديه لجنوب لبنان ثم نشأ في حيفا نحو عشر سنوات تحت الإقامة الجبرية فيها ، التي ضاق ذرعا بها حتى انتقاله لإكمال دراسته في موسكو ، فكان لفقدان الوطن و المكان دوره في تكوينه المعرفي و الوجداني .

فامتزج في موهبته الشعرية الفذة مفهوم الثورة على المحتل و الغاصب ، كما تمازجت لغته القوية و السهلة معا ، في دلالة واضحة على ثراءه اللغوي ، في كسب المتلقي بكافة طبقاته نحو الصيرورة مع حسه الشعري ، طيلة ما يقارب نصف قرن ، تنقل خلالها من شعر الثورة و الوطن إلى الحب الأبدي و فلسفة التعبير الذاتي ، فوصل في رحلته الأخيرة لفضاءات أوسع .

يقول عنه الناقد إلياس خوري " الشعر ماء اللغة ، به تغتسل من ذاكرتها و تصنع ذاكرتها في آن معا ، تجربة محمود درويش هي ابنة هذا الماء ، به غسلت لغتها و جددتها "

كما قالت عنه الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي  " هو الشاعر المارد ، الذي كلما كبر قلمه ، صغر قلبه  وبدا كأنه من عليائه يستنجد بنا ، ننتظر مزيدا من البكاء على كتف قصائده " .

تميز شاعرنا في مزجه الفريد بين معشوقته  و بين حبه للوطن المفقود ، فيقول في قصيدة ( أحبك أكثر ) :

 تكبّر ... تكبّر

فَمهما يكُن مِن جفَاك

ستبقَى ، بعيني و لَحْمي ، مَلاكْ

و تبقى ، كما شاء لي حُبنا أن أَراكْ

نسيمُكَ عنبَرْ

و أرضُكَ سكرْ

و إني أُحبكَ .. أكثر

و أنتَ الثرى و السماءْ

و قلبك أخضرْ .

 


تمايز درويش عن أقرانه الشعراء بكثير ، لغة و حواراً و أسلوبا بل و في الصورة أيضا ، التي حملت مضامين عميقة الدلالة ، كما أنه كان يجيد فن الإلقاء بشكل رائع ، و هذا الفن لا يجيده – بحسب اعتقادي – إلا قلة من الشعراء ، و يشهد على ذلك حفلاته و أُمسياته التي ضجّت بها مدرجات جامعات بيروت أو دمشق .


كما إنه تميز بتوظيف الرمز توظيفا إيحائيا جميلا ، فهو مثلا يرمز في طائر الحمام ، للسّلام المفقود في وطنه ، و في نفسه العليلة أيضاً ، فنجده ينشد في قصيدة ( يطير الحمام ) التي تميزت بلغةٍ شعريةٍ عالية ، و دخول أصواتٍ متعددةٍ فيها :

أَعِدّي لي الأَرضَ كَي أَستريحْ

فإني أُحبكِ حتَى التَعبْ ...

صباحُكِ فاكهةُ الأغاني

و هذا المسَاءُ ذَهبْ

و أشبهُ نفسي حين أعلّق نفسي

على عُنقٍ لا تعانقُ غير الغَمام

و إني أُحبكِ ، أنتِ بدايةَ روحي ، و أنتِ الخِتامْ

يطيرُ الحمامُ

يحطُ الحمامُ .

 
لم يتوقف نبض الشاعر يوما عن الاشتياق لوطنه أبداً ، فهو المولد و النشأة ، المكان و الزمان ، و التاريخ الأثير ، فمدينة القدس العريقة حين سقطت في حرب يونيو 1967 ، أضحت لديه مدينة كل الجروح الصغيرة ، فنلحظهُ يعيد توليف حكاية الألم و فداء المسيح من أجل الخلاص ، مع حالة الموت وقوفاً من أجل النصر ، في قصيدة ( أُغنية حُبٍ ) التي يقول في جزء منها :

مدينةَ كُل الجُروحِ الصَغيرة

يُناجي جَرحي تِلكَ الأميرة

ألا تُخمدينَ يديَّ ؟

 و ناراً تحتلُ بعدَي

أَلا تبعثينَ غَزالاً إِليَّ ؟

حَنيني إليكِ .. اغتِرابٌ

و حُبي إليكِ .... عقوقُ اِبنٍ يَطالُ السحَابْ .

تألم شاعرنا كثيرا لمحاولات طمس القضية الفلسطينية ، و ما قام به الاحتلال من نهب خيرات وطنه و تهجير شعبه ، كما توجع لحالة النكوص و الركود للأمة العربية ككل ، فكانت شكواه و حسرته نبعا شعريا لا ينضب ، بأسلوب بسيط و حيّ ، يمتلك ديمومة الجمال و العنفوان الدائم ، كما كانت الواقعية المشحونة بالعاطفة رسالة واضحة لمن يهمُهم الأمر ، فيقول شاديا في مقطع من ديوان ( لا تعتذر عما فعلت ) :

لا شَيءَ يُعجِبُني

يقول مُسافرٌ في الباصِ – لا الراديو

و لا صُحفِ الصباح ، و لا القِلاعِ على التلالِ

أريد أَن أَبكي

يقول السائقُ : انتظر الوصول للمحطةْ

و ابكِ وحدَك ما استطَعتْ

تقولُ سيدةٌ :  أنا أيضاً ، أَنا

لا شَيءَ يُعجِبني . دلَلتُ اِبني علَى قَبري ،

فأَعجَبهُ و نامَ ، و لمْ يودِعَني

أمّا أنا فأقولُ : أنزلني هنا . أنا

 مثلُهم لا شيءَ يُعجبني ، و لكنّي تَعبتُ

من السَّفرِ .

في مقابلة مع الناقد اللبناني عبده وازن ، سأل محمود درويش عن أمه ، فقال " إنها أُمي ، أنا ابنها المفضل و السبب بسيط .. لأني الابن الغائب ، غبت عنها سنوات طويلة " .

و المفارقة أن والدته الحاجة حورية توفيت بعد ولدها الشاعر ، بنحو نصف عام في العام 2009 ، و كانت في لقاءها الأخير معه ، تشد قميصه كي لا يتركها و يجري عملية القلب المفتوح ، التي أودت بحياته في ولاية تكساس في أغسطس 2008 ، و لم تتوانى الحاجة عن إحضار تراب من قريتها ( الجديدة ) لنثرها فوق قبر ابنها الذي دفن بمدينة رام الله الفلسطينية .

يقول في قصيدة ( إلى أُمّي ) التي حققت رواجا كبيرا :


أَحنُّ إلى خبزَ أُمّي

و قهوةُ أُمّي

و لَمسةُ أُمّي

 وتَكبرُ في الطُفولَةِ

يوماً على صَدرِ يومٍ

و أعشقُ عُمري لأَنّي

إِذا متُ ،

أخجَلُ من دَمعِ أُمّي .

بالطبع لا يمكن لمن هو مثلي ، إعطاء شاعر كبير بقامة محمود درويش ، حقه الأدبي و التحليلي ، و هو الصرح الكبير ، الذي خاض التجارب و المحن ، و جرب مرارة الغربة و فقدان الوطن ، كما عاش مضاضة بُعد حضن الأم ، و هو ذو الموهبة الفذة و الذي جعل من شعره محكيا بين الناس ، في عصر تراجع فيه الشعر ، لصالح الرواية و السينما و الإنترنت و غيرها ، فبجدارة وصل ليكون أحد أعمدة الشعر العربي الحديث .

و هنا يمكنني - بتواضع - ترشيح بعضاً من قصائد شاعرنا الراحل ، التي كان لها وقعٌ خاص عند جمهوره الواسع و نقادّه أيضاً ، علّها تروي ظَمأَ القارِئ الكريم ، و منها :


-     أَحَد عشَر كَوكَبا

-     أنَا العاشقُ السيئ الحظ

-     سجّل أنا عَربي

-      أنا يوسفُ يا أبي

-      في البالِ أغنيةٌ

-      لاعبُ النرد

-      جداريةٌ

-      في بيتِ أمّي

-      منفى (1)

-     و لنَا بلادٌ

-    كنتُ أحبُ الشَتاء .

 
دمتم بخير و عافية .

معلم اللغة العربية